– زمن عرفة: إذ يحوي الفضلّ كلّه.
– ونحن مقبلون غداً على يوم عرفة – ويوم عرفة زمن حوى الفضل كلّه ، أكمل الله فيه الدّين، وأتمّ النّعم على المسلمين- يعود علينا هذه السّنة، لنعيش جلال وعظمة الزّمان، بينما الشّوق متوهّج إلى عظمة وقدسيّة المكان.
فما جلال زمانه الّذي يجب أن نعيشه؟
إنّ جلال الزّمان الّذي دعيت من قبل مولاك إلى استثماره أخي الحبيب
يتجلّى في أمور ثلاثة:
أوّلاً : فيه نزل قول الله تعالى: « الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ
فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا».
قال المفسّرون : بما أنّ الله تعالى ذكر لنا فضله، فقد شرع لنا تعظيمه، وجعله لنا عيداً.
– ومعنى إكمال الدّين فيه: أنّ المسلمين لم يكونوا من قبل قد حجوا حِجّة الإسلام،
وبحَجهم هذا، أكمل الله تعالى لهم الفرائض والسنن، والحدود والجهاد والأحكام،
والحلال والحرام، فلم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام، ولا شيء من الفرائض .
وأمّا إتمام النّعمة فكانت نعمةَ الهداية إلى الإسلام، ونعمةَ إكمال الشّرائع والأحكام،
ونعمةَ إظهار وقوّة الدّين في دنيا الأنام، هذا أوّلاً.
ثانياً: نجد عظمة يوم عرفة عند الله تعالى أنّه يوم أقسم به، والعظيم لا يقسم إلّا بعظيم، فهو اليوم المشهود في قوله تعالى: ﴿ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ﴾، فعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالْيَوْمُ الْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ”.
ويوم عرفة هو الوَتر الّذي أقسم الله به في قوله: ﴿ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْر ﴾ [الفجر: 3]، قال ابنُ عبّاس رضي الله عنهما: “الشّفع: يوم الأضحى، والوَتر: يوم عرفة”.
ثالثاً: أنّ يوم عرفة هو من أفضل الأيام عند الله، أنَّه يومُ مغفرةِ الذُّنوب والعتق من النّار، والمباهاة بأهل الموقف، وهذا ما أخبر عنه نبيُّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم؛ فعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَا مِنْ يوْمٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللهِ مِنْ يوْمِ عَرَفَةَ يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِأَهْلِ الأَرْضِ أَهْلَ السَّمَاءِ، فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا ضَاحِينَ جَاؤُوا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ يَرْجُونَ رَحْمَتِي، وَلَمْ يَرَوْا عَذَابِي، فَلَمْ يُرَ يَوْمٌ أَكْثَرُ عِتْقًا مِنَ النَّارِ مِنْ يوْمِ عَرَفَةَ))، وعَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها:
(إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِى بِهِمُ الْمَلاَئِكَةَ فَيَقُولُ مَا أَرَادَ هَؤُلاَءِ))
أي تدنو رحمته وكرامته.
ولذا ترتّب على هذا الزّمن المقدس بنص الشرع آداباً، حريٌّ بك يا صاحب الهمّة أن تقوم بها يوم عرفة:
– أولاً : أخي الحبيب لتكن ممن نوى من الآن صيام يوم عرفة، فصيام ذلكم اليوم يكفّر ذنوب سنتين، فقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ((صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ))، ولتحثّ وتحضّ أهلك وأولادك وأحبابك على صيامه
ثانياً : أكثر من الاستغفار، مرضاة للرحمن، وغيظاً للشيطان، فيوم عرفة، يوم يكفّر الله سيئاتك، ويمحو خطاياك وزلاتك، مما يجعل إبليس يندحر صاغراً؛ وفي هذا يقول حبيبنا ونبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم : ((مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلَا أَدْحَرُ وَلَا أَحْقَرُ وَلَا أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنْ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ، إِلَّا مَا أُرِيَ يَوْمَ بَدْرٍ، قِيلَ: وَمَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَمَا إِنَّهُ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ الْمَلَائِكَةَ))؛ أي: يرتّب صفوف الملائكة للقتال، وهذا ما يغيظه
ثالثاً : كن كثير الذّكر بلسانك وحالك، عظيم الرجاء بمولاك، فالنَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))
وبإذن الله تعالى ستنال البشرى الّتي جاء بها سيّدنا جبريل عليه السّلام، إلى الأمّة المسلمة يوم عرفة، فعن أنس رضي الله عنه قال: (وقف النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بعرفاتٍ وقد كادت الشمسُ أن تغربَ، فقال: يا بلالُ أنصتْ ليَ النّاسَ، فقام بلالٌ فقال: أنصتوا لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ، فأنصتَ النّاسُ، فقال: معاشرَ النّاسِ، أتاني جبريلُ آنفًا، فأقرأني من ربي السّلامَ وقال: (إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ غفر لأهلِ عرفاتٍ وأهلِ المشعرِ الحرامِ، وضمن عنهم التَّبِعاتِ.
فقام عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه فقال: يا رسولَ اللهِ هذا لنا خاصَّةً؟ قال:
هذا لكم ولمن أتى بعدكم إلى يومِ القيامةِ فقال سيدنا عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه: كثُر خيرُ اللهِ وطاب)، فاللّهمَ أكثر الخير على أتباع نبيك صلى الله عليه وسلم، وطيِّبْ حياتهم بما يرضيك، آمين، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بقلم: محمّد الشّيخ حسين مدرّس علوم شرعيّة ولغة عربيّة بالمعهد.