– يطعن بعض المغرضين في الأحاديث الواردة في جواز إهداء ثواب الأعمال الصالحة للأموات؛ والذي منها حديث ابن عباس – رضي الله عنهما «أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (إن أمي نذرت أن تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: “نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله؛ فالله أحق بالوفاء).
ومنها حديث عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه)، وكذا ما روته رضي الله عنها أيضاً، «أن رجلاً قال للنّبيّ صلى الله عليه وسلم: إن أمي افتلتت(1) نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم)، ويستدلون على ردهم لحديث عائشة رضي الله عنها الأسبق بما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد).
أما أحاديث جواز إهداء الثواب للأموات عموماً فمردودة؛ لتعارضها مع قوله تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى (39)( (النجم)؛ أي: لا تحصل لأحد فائدة عمل إلا ما عمله بنفسه، فإذا كان الإنسان لا يصل إليه عمل غيره، فكيف يجوز أن يهدي إنسان لميت ثواب عمل لم يعمله؟!
– وجها إبطال الشبهة:
1 – إن الأحاديث الواردة في جواز إهداء ثواب الأعمال إلى الأموات أحاديث صحيحة ثابتة، بل منها ما هو في أعلى درجات الصحة، ولا يعارض حديث عائشة – رضي الله عنها – في جواز قضاء الصوم عن الميت بما روي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – في عدم الجواز، لا سيما وأن لابن عباس رواية صحيحة مرفوعة تؤكد مشروعية قضاء الصوم عن الميت، وغاية هذا أن يكون الصحابي قد أفتى بخلاف ما روى، وهذا لا يقدح في روايته؛ فإن روايته معصومة، وفتواه غير معصومة.
2 – لا تعارض بين تلك الأحاديث الثابتة في صحة انتفاع الأموات بسعي الأحياء وبين الآية الكريمة؛ لأن الآية تفيد أن الإنسان لا يكون له سعي غيره؛ أي: لا يمتلكه، فإذا أهداه غيره ذلك السعي جاز ونفعه، فالنفي في الآية نفي للملكية وليس نفياً للانتفاع. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الآية على ظاهرها، وأن هذه الأحاديث مخصصة لعمومها، وذلك جائز باتفاق علماء الأصول، والأمثلة على ذلك كثيرة.
وتفصيل ذلك:
أولاً. أحاديث جواز إهداء ثواب الأعمال الصالحة إلى الأموات صحيحة ثابتة:
إن الأحاديث الواردة في جواز إهداء ثواب الأعمال الصالحة إلى الأموات أحاديث صحيحة ثابتة؛ ففي جواز إهداء ثواب الحج جاءت أحاديث كثيرة؛ منها ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس – رضي الله عنهما – «أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين، أكنت قاضيتيه؟ اقضوا الله؛ فالله أحق بالوفاء»(2).
وروى الشيخان عن ابن عباس – رضي الله عنهما«أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير، عليه فريضة الله في الحج، وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فحجي عنه»(3).
وفي جواز إهداء ثواب الصدقة جاءت أحاديث كثيرة؛ منها ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه«أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبي مات وترك مالا ولم يوص، فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه؟، قال: نعم»(4)
وكذا ما أخرجه الشيخان عن عائشة – رضي الله عنها – «أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي افتلتت نفسها وأراها لو تكلمت تصدقت، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم، تصدق عنها»(4).
وجاء في جواز الدعاء للأموات أحاديث كثيرة أيضاً، منها ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»(6)
وروى مسلم – أيضا – في صحيحه عن أم الدرداء قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب، إلا قال الملك: ولك بمثل»(7)
وفي رواية «دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة. عند رأسه ملك موكل، كلما دعا لأخيه بخير، قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثل»(8)
وكذلك جاء في جواز قضاء الصيام الواجب عن الأموات؛ فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة – رضي الله عنها – أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه»(9).
وروى الشيخان – أيضا – عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن امرأة أتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، فقال: أرأيت لو كان عليها دين، أكنت تقضينه؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق بالقضاء»(10).
فالأحاديث السابقة صريحة الدلالة على جواز إهداء الثواب إلى الأموات، وكذا وصول هذا الثواب إليهم، وسنرآ في تتمة الموضوع أقوال العلماء في ذلك والحمد لله رب العالمين.
===================================================
[1]. افتلتت: ماتت فجأة.
[2]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الحج، باب: الحج والنذور عن الميت…، (4/ 77)، رقم (1852(.
[3]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الحج، باب: الحج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة، (4/ 79)، رقم (1854). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحج، باب: الحج عن العاجز…، (5/ 2086)، رقم (3194).
[4]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الوصية، باب: وصول ثواب الصدقات إلى الميت، (6/ 2535)، رقم (4141(.
[5]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الوصايا، باب: ما يستحب لمن توفي فجأة أن يتصدقوا عنه…، (5/ 457)، رقم (2760). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الزكاة، باب: وصول ثواب الصدقات إلى الميت، (6/ 2535)، رقم (4142(.
[6]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الوصية، باب: ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، (6/ 2536)، رقم (4145(.
[7]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب، (9/ 3836)، رقم (6800(.
[8]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب، (9/ 3836)، رقم (6802(.
[9]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الصوم، باب: من مات وعليه صوم، (4/ 226، 227)، رقم (1952). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصيام، باب: قضاء الصيام عن الميت، (4/ 1792)، رقم (2650).
[10]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الصوم، باب: من مات وعليه صوم، (4/ 227)، رقم (1953). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الصيام، باب: قضاء الصيام عن الميت، (4/ 1792)، رقم (2651(