الحمد لله الذي أنزل كتابه هدى ورحمة للمؤمنين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإنّ من رحمة الله تعالى وحكمته أن يسّر القرآن للذكر؛ فقال جلَّ شأنه:{ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر}.
وتيسير الله للقرآن يشمل تيسير ألفاظه للحفظ والتلاوة، وتيسير معانيه للفهم والتدبر، وتيسير هداه للعمل والاتباع.
ومن تيسير الله تعالى للقرآن تيسير تفسيره، وبيان معانيه، واستخراج فوائده وأحكامه، بطرق يتيسَّر للمتعلمين تعلمها، وللدارسين دراستها.
ولهذه الطرق منارات يهتدي بها السائرون، وعلامات يميّزون بها الخطأ من الصواب، والراجح من المرجوح.
ولهذا العلم أئمّته الذي هم هداة طريقه، وأسوة السائرين فيه؛ فمن اتّبع سبيلهم، وسار على منهاجهم، وتدرّج في مدارجهم، وصبر على لأواء الطريق بلغ منزلة الإمامة في هذا العلم، فانتفع وارتفع، ومن اتّبع غير سبيلهم، وارتضى غير ما ارتضوه، فقد زلّ وضلّ، وفُتِن وغُبن.
الأصل في بيان طرق التفسير:
من أشهر ما يُؤثر في بيان طرق التفسير، ما رواه ابن جرير في تفسيره من طريق مؤمل بن إسماعيل عن سفيان الثوري عن أبي الزناد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (التفسيرُ على أربعةِ أوجهٍ: وجهٌ تعرفه العربُ من كلامها، وتفسير لاَ يُعذر أحدٌ بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لاَ يعلمه إلا الله تعالى ذكره.
وهذا إسناد رجاله ثقات إلا أنه منقطع؛ فأبو الزناد لم يسمع من ابن عباس.
لكن هذه المقول حسنة من جهة المعنى، وقد تلقّاها العلماء بالقبول، واعتنوا بها شرحاً وتقريراً، وتأصيلاً وتفصيلاً.
• فأما التفسير الذي لا يعذر أحد بجهالته؛ فهو ما يحصل به العلم الضروري من دلالة الخطاب لمن بلغه؛ فقول الله تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً} صريح في الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك، ولا يعذر أحد بجهالة هذا الخطاب إذا بلغه بلاغاً صحيحاً.
وكذلك قول الله تعالى: { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} ، وقول الله تعالى:{ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً}.
ونحو ذلك من الآيات البيّنات التي تدل على المراد دلالة بيّنة ظاهرة في أمر من أمور الدين المعلومة بالضرورة للمسلمين.
فهذه لا يعذر أحد بجهالتها إذا بلغته بلاغاً صحيحاً، وهذا يخرج من لم تبلغه، ومن بلغته لكن على وجه لا تقوم به الحجة؛ كالأعجمي الذي لا يفقه ما يتلى عليه، ومن في حكمه.
● وأما التفسير الذي تعرفه العرب من كلامها فهو التفسير الذي يكفي في بيانه المعرفة اللغوية؛ فإنّ القرآن نزل بلسان عربيّ مبين على عرب فصحاء؛ وخاطبهم الله بأحسن ما يعرفون من الفصاحة والبيان؛ إلا أنّ علم اللغة واسع، ومفردات اللغة كثيرة يتفاوت الناس في العلم بها، وإدراك معانيها، ويستعمل عند أقوام من العرب ما هو غريب على آخرين،
روى أبو عبيد في فضائل القرآن وابن جرير في تفسيره والبيهقي في شعب الإيمان من طريق سفيان الثوري، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قال:(كنت لا أدري ما فاطر السموات، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، يقول: أنا ابتدأتها)، وابن عباس يعلم أن معنى “فاطر السماوات” أي خالقهما، لكن الفَطْرَ معنى أخصّ من مجرّد الخلق، فعرف من حكاية الأعرابي أن “فاطر السماوات” المراد به : مبتدِئ خلقهما.
وفي الصحيحين من حديث أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(بينما امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب، فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك أنت، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام، فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: لا، يرحمك الله، هو ابنها، فقضى به للصغرى).
قال: قال أبو هريرة:(والله إنْ سمعت بالسكين قط إلا يومئذ، ما كنا نقول إلا المُدْيَة)،
وهذا الحديث من أوّل ما سمعه أبو هريرة رضي الله عنه بعد إسلامه؛ وفي كتاب الله تعالى: (وآتت كلّ واحدة منهنّ سكّيناً). وروى الإمام أحمد والبيهقي من طرق يشدّ بعضها بعضاً عن أبي طُعْمَة أنه قال: سمعت ابن عمر يقول: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المِرْبَد؛ فخرجت معه فكنت عن يمينه، وأقبل أبو بكر فتأخَّرْتُ له فكان عن يمينه وكنتُ عن يساره، ثم أقبل عمر فتنحيَّتُ له فكان عن يساره، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم المربدَ فإذا بأزقاق على المربد فيها خمر؛ فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمُدْيَة وما عرفت المدية إلا يومئذ؛ فأمر بالزِّقَاق فشُقَّتْ ثم قال: (لُعنت الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وحاملها والمحمولة إليه وعاصرها ومعتصرها وآكل ثمنها).
الزِّقاق جمع زِقّ وهو وعاء من جلد يُحفظ فيه الخمر.والمُدية هي السكّين.
فهذا المثال من الأمثلة التي تظهر تفاوت العرب في استعمال المفردات اللغوية ومعرفة معانيها؛ فابن عمر قرشيّ، وأبو هريرة دَوْسيّ قد خفي على كلّ واحد منهما ما اشتهر عند الآخر.
● وأما التفسير الذي يعلمه العلماء فهو ما يتوقف القول فيه على العلم بأدلة الكتاب والسنة واستنباط الأحكام منها، ومعرفة بالإجماع والخلاف، والناسخ والمنسوخ، والعامّ والخاص، والمطلق والمقيّد، والمجمل والمبيّن، وغيرها من العلوم والأدوات التي يكتسبها العلماء بتعلمهم وتفقّههم في الكتاب والسنة؛ حتى يكون لديهم علم كثير يعرفون به تفسير الآيات التي لا يكفي في معرفة معناها مجرَّد المعرفة اللغوية؛ وذلك مثل المراد بالحق في قول الله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده}؛ فإنّه لا يعرف المراد إلا من كان له علم بأحكام زكاة الزروع والثمار.
● وأما التفسير الذي لا يعلمه إلا الله فهو الغيب الذي لا يبلغه علم البشر، كحقيقة صفات الله تعالى، وما تؤول إليه المغيبات من الجنة والنار وأهوال يوم القيامة، ومتى تكون الساعة، ونحو ذلك.
***
فأما ما لا يعلمه إلا الله فالواجب فيه أن نكل علمه إلى الله تعالى، ولا نتكلف الحديث فيه، فقد حرّم الله القول عليه بغير علم.
– وأما ما لا يعذر أحد بجهالته فأمره ظاهر بيّن.
– وبقي وجهان من التفسير: ما يعلمه العلماء ، وما تعرفه العرب من كلامها.
وهذان الوجهان هما اللذان اجتهد فيهما العلماء، ودوّنت التفاسير لحفظ ما روي فيهما، وصنّفت المصنّفات لجمع تلك المرويات والأقوال وتقريبها، وتحريرها وتيسيرها.