عرف الصّحابة منزلة السّنّة فتمسّكوا بها، وتتبّعوا آثار الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، وأبوا أن يخالفوها متى ثبتت عندهم، كما أبوا أن ينحرفوا عن شيء فارقهم عليه، واحتاطوا في رواية الحديث عنه عليه الصّلاة والسّلام، خشية الوقوع في الخطأ، وخوفاً من أن يتسرّب إلى السنّة المطهّرة الكذب أو التحريف، وهي المصدر التشريعي الأول بعد القرآن الكريم.
1 – قال الحافظ الذهبي في ” تَذْكِرَةِ الحُفَّاظِ ” في ترجمة أبي بكر الصديق: «كَانَ أَوَّلُ مَنْ احْتَاطَ فِي قَبُولِ الأَخْبَارِ». ثم روى الذّهبي من طريق ابن شهاب عن قبيصة أن الجدّة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث، قال: «مَا أَجِدُ لَكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْئًا، وَمَا عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ الْلَّهِ صَلَّىَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ لَكِ شَيْئًا»، ثُمَّ سَأَلَ النَّاسَ فَقَامَ المُغيرَةُ فَقَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّىَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِيهَا السُّدُسَ». فَقَالَ لَهُ: «هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ؟» فَشَهِدَ مُحَمَّدٌ بْن مَسْلَمَةَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَأَنْفَذَهُ لَهَا أَبُو بَكْرٌ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -».
2 – وَرَوَى أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الجَرِيرِي عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ أَبَا مُوسَى سَلَّمَ عَلَى عُمَرَ مِنْ وَرَاءِ البَابِ ثَلاَثًا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَرَجَعَ فَأرْسَلَ عُمَرُ فِي أَثَرِهِ فَقَالَ: ” لِمَ رَجَعْتَ؟ ” قَالَ: ” سَمِعْتُ رَسُول الله – صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ: «إِذَا سَلَّمَ أَحَدُكُمْ ثَلاَثًا فَلَمْ يُجَبْ فَلْيَرْجِعْ». قَالَ: ” لتَأْتِينِيِ عَلَى ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ أَو لأَفْعَلَنَّ بِك، فَجَاءَنَا أَبُو مُوسَى مَمْتَقِعًا لَوْنُهُ وَنَحْنُ جُلُوسٌ، فَقُلْنَا: ” مَا شَأْنُكَ؟ ” فَأخْبرَنَا وَقَالَ: ” فَهَلْ سَمِع أَحَدٌ مِنْكُمْ؟ ” فَقُلْنَا: “نَعَمْ كُلَّنَا سَمِعَهُ ” فَأَرْسَلُوا مَعَهُ رَجُلاً مِنْهُم حَتَّى أَتَى عُمَرَ فَأخْبرهُ».
فهم بعض الباحثين من هذه الآثار أن خِطَّةَ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في الحديث ألاَّ يقبلا حَدِيثًا إلا ما رواه اثنان فأكثر، وأن خِطَّةَ عَلِيٍّ على تحليف الراوي، وانتقل هذا الفهم إلى كثير مِمَّنْ كتب في تاريخ التشريع الإسلامي وتاريخ السُنَّةِ في العصر الحديث، فأصبح عندهم قَضِيَّةً مُسَلَّمَةً لا يذكرون غيرها، وَمِمَّنْ ذهب إلى هذا مُؤَلِّفُو” مذكرة تاريخ التشريع الإسلامي ” في كلية الشريعة بالأزهر،
والواقع أن بناء هذه القاعدة أو النظرية على تلك الآثار خطأ علمي تَرُدُّهُ الآثار الأخرى التي تشهد بأن عمر رضي الله عنهما أخذ بأحاديث لم يروها له إلا رَاوٍ واحد، وأن عَلِيًّا رضي الله عنه قَبِلَ حديث بعض الصحابة دُونَ أن يستحلفه، وأن أبا بكررضي الله عنه رُوِيَ عنه مثل ذلك.
وإليكم هذه الآثار:
1 – أخرج ” البخاري ” و” مسلم ” مِنْ طَرِيقِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ – أَنَّ عُمَرَ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ، فَلَمَّا جَاءَ بِـ «سَرْغَ» بَلَغَهُ أَنَّ الوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّأْمِ – فَأَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَنَّ [رَسُولَ اللَّهِ] صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ [فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ] وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» فَرَجَعَ عُمَرُ مِنْ «سَرْغَ». قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: «وَأَخْبَرَنَا سَالِمٌ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ إِنَّمَا انْصَرَفَ بِالنَّاسِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ».
2 – وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كَانَ يَقُولُ: «الدِّيَةُ لِلْعَاقِلَةِ، وَلاَ تَرِثُ الْمَرْأَةُ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا شَيْئًا، حَتَّى أَخْبَرَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضِّبَابِيِّ مِنْ دِيَتِهِ»، فَرَجَعَ إِلَيْهِ عُمَرُ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
هذه الآثار مستفيضة صحيحة رواها الأئمة الأثبات، والخلاصة أنّ الثابت الصحيح من عمل أبي بكر وعمر وَعَلِيٍّ رضي الله عنهم عملهم بخبر الراوي الواحد فقط وأنه في الحالات التي اقتضت طلب رَاوٍ آخر أو استحلافه لا يستلزم ذلك أن يكون مذهباً عَامًّا وخطة مقررة، وبهذا التوجيه والتحقيق يلتقي عمل هؤلاء الصحابة الثلاثة الكبار مع عمل الصحابة الآخرين من حيث اكتفاؤهم بِرَاوٍ وَاحِدٍ. وسيأتي نقل الشافعي لذلك في موضعه عند الكلام على حُجِيَّةِ خبر الآحاد.
والحمد لله رب العالمين