المَوْضُوعُ الأوّلُ (1) في عِلْمِ السُّنَّةِ النَّبويَّة
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرّحيمِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضلُ الصَّلاةِ وأتمُّ التَّسليمِ على سيِّدِنا محمَّدٍ، وعلى آلهِ وصحبِهِ، ومن سارَ على نهجهِ إلى يومِ الدِّين.
مرحباً بكم زوّارَ موقعِ معهدِ الإمامِ الأعظمِ أبي حنيفةَ النُّعمانِ في رحابِ قِسمِ السُّنَّة النَّبويَّة، حيثُ سنبدأُ معكم بتعريفٍ عامٍّ بهذا العِلمِ العظيمِ، علمِ السُّنَّة النَّبويَّة، وما يتعلَّقُ به، راجينَ لنا ولكم الإخلاصَ والصّوابَ، والقَبولَ عندَهُ سبحانَهُ وتعالى، إنّه خيرُ مأمولٍ، وأكرمُ مسؤولٍ.
تَعْرِيْفٌ عَامٌّ بالسُّنّةِ وَعُلومِهَا
أوّلاً: مَعْنَى السُّنَّةِ وَتَعْرِيفُهَا:
السُّنَّةُ في اللّغة: الطّريقة؛ محمودةً كانت أو مذمومةً، ومنهُ قولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ» (1) وقوله: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْراً بِشِبْرٍ، وَذِرَاعَاً بِذِرَاعٍ» (2).
وهي في اصطلاح المُحَدِّثِينَ: ما أُثِرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ أو صفةٍ خَلْقِيَّةٍ أو خُلُقِيَّةٍ أو سيرةٍ، سواءٌ كان قبلَ البعثةِ أو بعدَها (3)، وهي بهذا تُرادِفُ الحديثَ عندَ بعضِهم.
وفي اصطلاحِ الأصوليّين: ما نُقلَ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ، فمثالُ القولِ: ما تَحَدَّثَ بهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مختلفِ المناسباتِ مِمَّا يتعلّقُ بتشريعِ الأحكامِ، كقولِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» (4). وقوله: «البَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» (5).
ومثالُ الفعلِ: ما نقلَه الصّحابةُ من أفعالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شؤونِ العبادةِ وغيرِها، كأداءِ الصّلواتِ، ومناسك الحجّ، وآداب الصِّيام، وقضائِه بالشّاهدِ واليمين.
ومثالُ التَّقريرِ: ما أَقَرَّهُ الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أفعالٍ صدرَتْ عن بعض أصحابِه بسكوتٍ منه مع دِلالةِ الرِّضى، أو بإظهارِ استحسانٍ وتأييدٍ.
فَمِنَ الأوَّلِ، إقرارُه عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلاَمُ لاجتهاد الصَّحابة في أمر صلاة العصر في غزوة بني قريظة حين قال لهم: «لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمْ العَصْرَ إِلاَّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ» (6) فقدْ فهمَ بعضُهم هذا النَّهيَ على حقيقتِه فَأَخَّرَهَا حتى فاتته، فقضاها بعد المغرب، وفَهِمَهُ بعضُهم على أنَّ المقصودَ حثُّ الصَّحابةِ على الإسراعِ، فصلَّاها في وقتِها، وبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما فَعَله الفريقان فَأَقَرَّهُمَا، ولم يُنكرْ عليهِما.
ومِنَ الثَّاني: ما رُوِيَ أنَّ خالدَ بنَ الوليد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَكَلَ ضَبّاً قُدِّمَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ أَنْ يَأْكُلَهُ، فَقَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: أَوَ يَحْرُمُ أَكْلُهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: «لاَ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ» (7).
وقد تطلق السُنَّةُ عندَهم على ما دَلَّ عليه دليلٌ شرعيٌّ، سواءٌ كان ذلك في الكتابِ العزيزِ، أو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو اجتهدَ فيه الصَّحابةُ، كجمعِ المصحفِ، وحملِ النَّاس على القراءةِ بحرفٍ واحدٍ، وتدوينِ الدَّواوينِ، ومنه قولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي» (8).
ما ثبتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غيرِ افتراضٍ ولا وجوبٍ، وتقابلُ الواجبَ وغيرَه من الأحكامِ الخمسةِ، وقد تُطلَقُ عندَهم على ما يقابلُ البدعةَ، ومنه قولُهم: «طَلاَقُ السُنَّةِ كَذَا، وَطَلاَقُ البِدْعَةِ كَذَا» (9).
وَمَرَدُّ هذا الاختلافِ في الاصطلاحِ إلى اختلافِهم في الأغراضِ الَّتي يُعنَى بها كلُّ فئةٍ من أهلِ العلم.
فعلماءُ الحديثِ إنَّما بحثوا عن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الإمامِ الهادي الَّذي أخبرَ اللهُ تعالى عنه أنَّه أُسْوَةٌ لنا وقدوةٌ، فنقلُوا كلَّ ما يتَّصلُ بهِ من سيرةٍ وَخُلُقٍ وشمائلَ وأخبارٍ وأقوالٍ وأفعالٍ، سواءٌ أَثْبَتَ ذلك حُكْماً شَرْعِيَّاً أم لا.
وعلماءُ الأصولِ إنَّما بحثوا عن رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المُشَرِّعِ الَّذي يضعُ القواعدَ لِلْمُجْتَهِدِينَ من بعدِه: وَيُبَيِّنُ للنَّاسِ دستورَ الحياة، فعَنَوا بأقوالِهِ وأفعالِهِ وتقريراتِهِ الَّتي تُثبتُ الأحكامَ وتقرِّرُها.
وعلماءُ الفقهِ إنَّما بحثوا عن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذي لا تَخرجُ أفعالُهُ عن الدِّلالةِ على حكمٍ شرعيٍّ، وهمْ يبحثون عن حكمِ الشَّرعِ على أفعالِ العبادِ وجوباً أو حرمةً أو إباحةً أو غيرَ ذلك.
ونحنُ هنا نريدُ بِالسُّنَّةِ ما عناه الأصوليُّون، لأنَّها بتعريفِهم هي الَّتي يبحثُ عن حُجِّيَّتِهَا ومكانتِها في التَّشريع، وإنْ كنَّا تعرَّضْنا لإثباتِ السُّنَّةِ تَارِيخِيَّاً بالمعنى الأعمِّ الَّذي عناهُ المُحَدِّثُونَ.
– في المَوضُوعِ القَادِمِ بإذنِ اللهِ تعالى سنتَحدّثُ عَن طَاعَةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم في حياتِه وبعدَ مماتِه، فحتَّى ذلكمُ الحين؛ نستودعُكمُ اللهَ تعالى، والسَّلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.
(1) أخرجه ” مسلم ” عن جرير بن عبد الله البَجَلي.
(2) أخرجه ” البخاري ” و” مسلم ” عن أبي سعيد الخدري.
(3) ” قواعد التحديث “: لابن قاسم الحلاق القاسمي ص 35 – 38 و” توجيه النظر “: ص 2.
(4) أخرجه ” البخاري ” و” مسلم ” عن عمر.
(5) أخرجه ” البخاري ” و” مسلم ” عن ابن عمر.
(6) أخرجه ” البخاري ” و” مسلم ” عن ابن عمر.
(7) ” البخاري ” و” مسلم ” عن ابن عباس.
(8) ” الموافقات “: للشاطبي 4/ 6، والحديث أخرجه ” أبو داود ” و” الترمذي “، عن العرباض بن سارية، وقال: حسن صحيح.
(9) ” إرشاد الفحول “: الشوكاني اليمني ص 31.