– إنّ علم أزمنة النّزول القرآنيّ يرتبط ارتباطاً لصيقاً بعلم أمكنته، وتحديد مواقعه، لكنّهما ينفصلان لاعتبارات فنِّيَّة أخرى، فالزَّمن له اعتبار، والمكان له اعتبار، ولكلّ منهما اهتمامات لدى النَّاس.
وهذان العلمان ممّا خصّ بهما القرآن الكريم، عن سابقه من كتب إلهيّة، بل ويعدّان أيضاً من نقاط التّمايز التّنزيليّ الإلهيّ على الأنبياء والمرسلين.
فماذا- بعد- عن هُوّيّة هذين العلمين البديعين في هذا المضمار؟
أمّا علم أزمنة النزول: فقد أطلق عليه ب (علم المكّي والمدنيّ). أو (العهد المكّي والمدنيّ). فما حدّ هذين العهدين إذاً؛ حتّى نتعرّف على وظائفه، ومَهمّاته التّشريعيّة؟!
حدّ المكي والمدنيّ:
ولم يعرّف بحدّ معين في أثناء التّنزيل، وإنّما الحاجة العلميّة هي الّتي دفعت العلماء إلى البحث عن السّبل الّتي تعرّف عليه، وتمنحه هوية علميّة مميّزة، فجاءت وجهات نظرهم في التّحديد متباينة.
ففريق حدّه فقال:
«إنّ المكي ما نزل بمكة- ولو بعد الهجرة، والمدني: ما نزل بالمدينة» وأدخل هذا الفريق ب (المكي) ما نزل بضواحي مكة- كالمنزّل على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمنى، وعرفات، والحديبية.
كما أدخل ب (المدني) ما نزل بضواحي المدينة- كالمنزّل عليه في بدر، وأحد.
وهذا التّقسيم للعهدين، قد لوحظ فيه مكان النّزول، لذا لم يكن حاصراَ وضابطاً لكلّ أطراف المسألة.
فقد عكّر عليه ما نزل ما بين مكَّة والمدينة وضواحيهما، كقوله تعالى في سورة التوبة/ 42/ (لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ)، فقد نزلت هذه في تبوك.
وكقوله تعالى في سورة الزّخرف. (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا)،
فقد نزلت هذه ببيت المقدس ليلة الإسراء، وهذا الحدّ قد بان عيبه، وأخلّ في تحديد هوّية العهدين، حيث لم يكن شاملاً للضَّبط والحصر لأطراف القضيّة.
وفريق آخر قد حدّه، فقال:
«المكّي: ما وقع خطاباً لأهل مكة. والمدني: ما وقع خطاباً لأهل المدينة».
ولوحظ عند هذا الفريق: أن ما صدّر في القرآن بلفظ يا أَيُّهَا النَّاسُ* فهو مكي، لأن شعب مكة- يومئذ- كان يغلب عليه الكفر، فخوطبوا بيا أيّها الناس، وإن كان غيرهم مندرجاً فيهم.
وألحق لفظ يا بَنِي آدَمَ* به أيضاً.
وما صدّر بلفظ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا*. على أهل المدينة يومئذ، لعموم الإيمان فيهم وإن كان غيرهم داخلاً فيهم.
فقد أخرج أبو عبيد في فضائل القرآن، عن ميمون بن مهران. قال:
[ما كان في القرآن يا أَيُّهَا النَّاسُ* أو يا بَنِي آدَمَ*: فإنّه مكي. وما كان يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا*: فإنّه مدني].
ولم يكن هذا الحدّ كامل الضبط لمسائل هذا العلم، وإنما اخترقت جداره قذيفتان اثنتان:
أولاهما: ما صدّر نزوله بلفظ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ* كما في قوله تعالى في سورة الأحزاب يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ ….
ثانيهما: ما صدّر نزوله بغير النداء كقوله تعالى إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ …. في سورة (المنافقين).
ويمكننا قبول هذا الحدّ على سبيل الغالب، وإلّا فهو غير كامل الضبط والاستيعاب.
وبقي لدينا أن نقرّر ما اعتمد عليه في ضبط هوية (المكي والمدني)، وصار مشهورا، وهذا الضبط قد لوحظ فيه الزمن فقط، ثم ألبس لبوس المكان، وليس للمكان كبير شأن فيه.
وإليك الحدّ المعتمد عليه بهذا الشأن: [المكيّ: هو كل ما نزل قبل الهجرة النبوية، ولو كان نزوله بغير مكة. والمدني: هو كل ما نزل بعد الهجرة النبوية. وإن كان نزوله بمكة].
وبهذا التقرير لحدّ المكي والمدني، قد بدا واضحا أنه تقسيم صحيح سليم، لكمال ضبطه، ودقة اضطراده، فهو لا يدع أي اختراق عليه- بخلاف سابقيه.
لذا: فقد اعتمد لدى علماء هذا الشأن، واشتهر بينهم، وبقي السائد في تقرير المسائل الدينية.
وعليه: فإن قوله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ … المائدة/ 3/.
قد نزلت يوم الجمعة بعرفة حجة الوداع، لكنّها صنّفت مع الآي المدني اعتمادا على الحدّ الأخير المشهور.
وقوله تعالى* إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها … النساء/ 58/. قد نزلت بمكة (جوف الكعبة) عام الفتح.
ثمّ صنّفت في عداد العهد المدني أيضاً، اعتماداً على الحدّ المذكور آخراً.
ويقاس عليه ما نزل في أسفاره- كفاتحة سورة الأنفال- حيث نزلت ببدر، وأدرجت في عداد المدني أيضاً، والحمد لله رب العالمين.