إنّ المشهورَ المتردِّد على بعض الألسِنَة أنَّ سيِّدنا عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حبس ثلاثةً من كبار الصَّحابة لإكثارهم الحديث، وهُمْ ابنُ مسعود، وأبو الدَّرداء، وأبو ذرٍّ رضي الله عنهم، وقد حاولتُ أن أعثر على هذه الرّواية في كتاب معتبر فلم أجدها، ودلائل الوضع عليها ظاهرة، فابنُ مسعود رضي الله عنه كان من كبار الصَّحابة وأقدمهم إسلاماً، وله مقام كبير في نفس سيِّدنا عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، حتَّى إنَّه حين أرسله إلى العراق امْتَنَّ عليهم بإرساله إذ قال لهم: «ولقد آثرتكم بعبد الله على نفسي» وكان مقامه خلال خلافة سيِّدنا عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في العراق، وإنَّما أرسله إليها، لتعليم أهلها الدِّين والأحكام، ومن الأحكام ما يؤخذ من القرآن الكريم، وأكثرها أُخِذَ من السُنّة الشّريفة، فكيف يحبسه سيِّدنا عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لتحديثه؟ وهو إنَّما أرسله لهذا الغرض؟!
وأمَّا سيّدنا أبو ذر وسيّدنا أبو الدّرداء رضي الله عنهما، فلا يعلم عنهما كثير حديث، نعم كان سيّدنا أبو الدرداء رضي الله عنه معلّم المسلمين بالشّام، كما كان سيّدنا ابن مسعود رضي الله عنه في العراق، والغرابة في حبس سيِّدنا عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لسيِّدنا ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ تأتي أيضاً في سيّدنا أبي الدّرداء رضي الله عنه، فكيف يحبسه وهو معلِّمهم ومُفَقِّهُهُم في دينهم؟ وهل كان سيِّدنا عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يريد منه ومن سيّدنا ابن مسعود رضي الله عنهما أن يكتُما بعض الحديث فيكتُما بعض أحكام الدّين عن المسلمين؟!!
وأما أبو ذرّ رضي الله عنه فمهما نقل عنه من حديث؛ فهو لم يبلغ جزءاً مما بلَّغه أبو هريرة رضي الله عنه، فلماذا يحبسه ولا يحبس أبا هريرة رضي الله عنه؟
ولئن قيل: إن سيدنا أبا هريرة رضي الله عنه لم يكن يكثر الحديث في عهد سيِّدنا عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ خوفاً منه، قلنا: لماذا لم يَخَفْهُ أبو ذرّ رضي الله عنه كما خَافَهُ أبو هريرة رضي الله عنه؟
– والحاصل: أنَّ الّذين عُرفوا بكثرة الحديث من الصّحابة كابن عبّاس، وأبي هريرة، وعائشة، وجابر بن عبد الله، وابن مسعود معهم، لم يرْوَ عن أنّه تعرّض لهم بشيء، بل روي أنّه قال لأبي هريرة رضي الله عنه حين بدأ يكثر من الحديث: «أَكُنْتَ مَعَنَا حِينَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَكَانِ كَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رضي الله عنه: أَمَّا إِذَا ذَكَرْتَ ذَلِكَ فَاذْهَبْ فَحَدِّثْ». فكيف يعقل أن يترك أبا هريرة رضي الله عنه وهو أكثر الصحابة حَدِيثًا على الإطلاق، ثم يحبس مثل ابن مسعود رضي الله عنه وهو أقل من أبي هريرة رضي الله عنه حَدِيثًا، أو مثل أبي الدرداء وأبي ذررضي الله عنهما، وهما لم يُعْرَفَا بين الصّحابة بكثرة الحديث مطلقاً.
– لقد لبثت كثيراً أشكّ في هذه الرّواية وأقلِّبُها على جميع وجوه النّظر، حتّى قرأت في كتاب ” الإحكام ” لابن حزم ما يلي: «وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ حَبَسَ ابْنَ مَسْعُودٍ مِنْ أَجْلِ الحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا الدَّرْدَاءَ وَأَبَا ذَرٍّ».
وطعن ابن حزم في هذه الرّواية بالانقطاع، «لأَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَاوِيهِ عَنْ عُمَرَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَقَدْ وَافَقَهُ البَيْهَقِيُّ عَلَىَ هَذَا، وَلَكِنَّ يَعْقُوبَ بْنِ شَيْبَةَ وَالطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَثْبَتُوا سَمَاعَهُ مِنَ عُمَرَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ فَإِنَّهُ مَاتَ سَنَةَ 99 أَوْ 95 وَعُمْرُهُ (75 سَنَةً) فَيَكُونُ قَدْ وُلِدَ سَنَةَ 20 مِنَ الهِجْرَةِ فِي أَوَاخِرِ خِلاَفَةِ عُمَرَضي الله عنه. فَلاَ يُتَصَوَّرُ سَمَاعُهُ مِنْهُ فِيْ مِثْلِ تِلْكَ السِنِّ، وَعَلَىَ ذَلِكَ فَلاَ تَكُونُ الرِّوَايَةُ حُجَّةً وَلاَ يُؤْخَذُ بِهَا» ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: «إِنَّ الخَبَرَ فِي نَفْسِهِ ظَاهِرُ الكَذِبِ وَالتَّوْلِيدِ، لأَنَّهُ يَخْلُو عَنْ أَنْ يَكُونَ اتَّهَمَ الصَّحَابَةَ، وَفِي هَذَا مَا فِيهِ، أَوْ يَكُونَ نَهَى عَنْ نَفْسِ الحَدِيثِ وَعَنْ تَبْلِيغِ السُنَّةِ، وَأَلْزَمَهُمْ كِتْمَانَهَا وَجَحَدَهَا، وَهَذَا خُرُوجٌ عَنِ الإِسْلامِ، وَقَدْ أَعَاذَ اللهُ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلٌ لاَ يَقُولُهُ مُسْلِمٌ أَصْلاً، وَلَئِنْ كَانَ حَبَسَهُمْ وَهُمْ غَيْرُ مُتَّهَمِينَ، قَدْ ظَلَمَهُمُ فَلْيَخْتَرْ المُحْتَجُّ لِمَذْهَبِهِ الفَاسِدِ بِمِثْلِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ المَلْعُونَةِ أَيُّ الطَّرِيقَيْنِ الخَبِيثَيْنِ شَاءَ». اهـ. (1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ” الإحكام “: 2/ 193