مَوْقِفُ الصَّحَابَةِ مِنَ رواية الحَدِيثِ إقلالاً وإكثاراً بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ صلّى الله عليه وسلّم:
– أخرج أبو داودَ والتِّرمذيُّ في سننِهما، عن سيّدنا زَيْدٍ بْنِ ثَابِتٍ رضيَ اللهُ عنهما، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرءاً سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَهَا وَوَعَاهَا، فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا، فَرُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ»، وفي حديث آخر يقول: «أَلاَ لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ مِنْكُمْ الغَائِبَ» (1)، وهكذا أوصى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صحابته بتبليغ السُنَّةِ إلى من وراءهم مع التَّثبّت فيما يَرْوُونَ: «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِباً أَنْ يُحَدِّث بِكُلِّ مَا سَمِعَ» (2)، فلم يكن بُدٌّ من أن يصدع الصّحابة بالأمر، ويبلّغوا أمانة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم إلى المُسْلِمِينَ، وخصوصاً وقد تفرّقوا في الأمصار، وأصبحوا محلّ عناية التَّابِعِينَ والرحلة إليهم، فكان التّابعون يتتبّعون أخبارهم ومواطنهم، فيرحل إليهم من يرحل، على بُعْد الشّقّة وعناء الأسفار.
هذا كلّه كان عاملاً في انتشار الحديث، وانتقاله إلى جمهور المُسْلِمِينَ، بَيْدَ أَنَّ الصّحابة كانوا متفاوتين في التّحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قِلَّةً وكثرة، فمن المُقِلِّينَ: أسيادنا الزّبير، وزيد بن أرقم، وعمران بن حصين رضي الله عنهم، فقد رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ لأَبِيهِ: (إِنِّي لاَ أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يُحَدِّثُ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ، قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أُفَارِقْهُ، وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» (3).
وَيَرْوِي ابْنُ مَاجَهْ فِي ” سُنَنِهِ: (أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ كَانَ يُقَالُ لَهُ: حَدِّثْنَا، فَيَقُولُ: «كَبِرْنَا وَنَسِيَنَا، وَالحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ شَدِيدٌ»، وَيَقُولُ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدٍ: «صَحِبْتُ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ (4) مِنَ المَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ، فَمَا سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا وَاحِداً»، وكان أنس بن مالك يُتْبِعُ الحديث عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: «أَوْ كَمَا قَالَ» حَذَراً مِنَ الوُقُوعِ فِي الكَذِبِ عَلَيْهِ، فما صنعه الصّحابة الزّبير وزيد بن أرقم وأمثالهما رضي الله عنهم من المُقِلِّينَ، إنما كان خَوْفاً من الوقوع في خطأ لم يقصدوه، ويظهر أنَّ ذاكرتهم لم تكن من شأنها أن تسعفَهم بإيراد الحديث على لفظه أو وجهه الّذي سمعوه من النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان من الاحتياط في دين الله عندهم أن لا يكونوا من المُكْثِرِينَ.
ولقد أضيف إلى هذا رغبة سيّدنا عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ألاَّ يكثروا من التّحديث عن الرّسول عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ، كي لا ينشغل النَّاس بالحديث عن القرآن، والقرآن غَضٌّ طَرِيٌّ. فما أحوج المُسْلِمِينَ إلى حفظه وتناقله، والتَّثبُّت فيه، والوقوف على دراسته!!
رَوَىَ الشَّعْبِيُّ عَنْ قَرَظَةَ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: «خَرَجْنَا نُرِيدُ العِرَاقَ، فَمَشَى مَعَنَا عُمَرُ إِلَى «صِرَارٍ» فَتَوَضَّأَ فَغَسَلَ اثْنَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: ” أَتَدْرُونَ لِمَ مَشَيْتُ مَعَكُمْ؟ ” قَالُوْا: “نَعَمْ نَحْنُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشَيْتَ مَعَنَا”، فَقَالَ: “إِنَّكُمْ تَأْتُونَ أَهْلَ قَرْيَةٍ لَهُمْ دَوِيٌّ بِالقُرْآنِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، فَلاَ تَصُدُّوهُمْ بِالحَدِيثِ فَتَشْغَلُوهُمْ، جَوِّدُوا القُرْآنَ، وَأَقِلُّوا الرِّوَايَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَامْضُوا وَأَنَا شَرِيكُكُمْ”، فَلَمَّا قَدِمَ قَرَظَةُ قَالُوا: “حَدِّثْنَا”، قَالَ: ” نَهَانَا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ”» (5).
وسنرى في لقائنا المقبل كيف كان بعضٌ من الصَّحابة من يكثر رواية الحديث عن الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم، ويستكثر منه أيضاً، والحمد لله ربِّ العالمين.
===========================================
(1) أخرجه ابن عبد البر في ” جامع بيان العلم وفضله ” عن أبي بكرة: 1/ 41.
(2) أخرجه ” مسلم ” عن أبي هريرة.
(3) أخرجه البخاري في «صحيحه»، في كتاب العلم.
(4) هو أبو سعيد الخدري.
(5) ” جامع بيان العلم “: 2/ 120.