إنَّ الّذيْ نَزَلَ به سيّدنا جبريلُ عليه السّلام على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو القرآن والسنّة، أمّا القرآن فنزوله كان بالألفاظ الحقيقية المعجزة من أول الفاتحة إلى آخر سورة النّاس، وتلك الألفاظ هي كلام الله وحده، لا دخل لسيّدنا جبريل عليه السّلام، ولا لسيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم في إنشائها وترتيبها، بل الّذي رتّبها أوَّلاً هو اللهُ سبحانه وتعالى، ولذلك تنسب له دون سواه، وإن نطق بها سيّدنا جبريل عليه السّلام، أو سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وملايين الخلق من بعدهما، من لدن نزول القرآن إلى يوم السّاعة، وذلك كما ينسب الكلام البشريُّ إلى من أنشأه ورتَّبه في نفسه أوَّلاً دون غيره، ولو نطق به آلافُ الخلائق في آلاف الأيّام والسّنين، إلى يوم يقوم النّاس لربّ العالمين.
فالله جلّت حكمته؛ هو الّذي أبرز ألفاظ القرآن وكلماته، مرتّبة على وفق ترتيب كلماته النّفسيّة، لأجل التّفهيم والتّفهم، كما نبرز نحن كلامنا اللّفظيّ على وفق كلامنا النّفسيّ لأجل التفهيم والتّفهم، ولا ينسب الكلام بحال إلَّا إلى من رتّبه في نفسه أوّلاً، دون من اقتصر على حكايته وقراءته، ولذلك لا يجوز إضافة القرآن على سبيل الإنشاء إلَّا لله سبحانه، كما لا يجوز نسبة كلام أنشأه شخص ورتّبه في نفسه أوَّلاً إلى شخص آخر، حكاه وقرأه حين اطّلع عليه أو سمعه.
وقد أسفّ بعضُ النَّاس، فزعم أنَّ جبريل عليه السَّلام كان ينزل على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمعاني القرآن، والرّسول صلّى الله عليه وسلّم يعبّر عنها بلغة العرب. وزعم آخرون أنّ اللّفظ لسيّدنا جبريل عليه السّلام، وأنّ الله تعالى كان يوحي إليه المعنى فقط، وكلاهما قول باطل أثيم مصادم لصريح الكتاب والسنّة والإجماع، ولا يساوي قيمة المداد الّذي يكتب به. وعقيدتنا أنَّه مدسوس على المسلمين في كتبهم. وإلَّا فكيف يكون القرآن حينئذ معجزاً، واللّفظ لسيّدنا جبريل عليه السّلام، أو سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم؟ ثم كيف تصحُّ نسبته إلى الله تعالى واللّفظ ليس لله تعالى ؟ مع أن الله يقول: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} إلى غير ذلك مما يطول بنا تفصيله.
والحقّ أنّه ليس لجبريل عليه السّلام في هذا القرآن سوى حكايته للرّسول صلّى الله عليه وسلّم وإيحائه إليه، وليس للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في هذا القرآن سوى وعيه وحفظه، ثم حكايته وتبليغه، ثم بيانه وتفسيره، ثم تطبيقه وتنفيذه. نقرأ في القرآن نفسه أنّه ليس من إنشاء سيّدنا جبريل عليه السّلام، أو سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم،نحو {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} . ونحو: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} . ونحو: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} . ونحو: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} .
وصفوة القول في هذا المقام: أنّ القرآن أوحيت ألفاظه من الله اتّفاقاً، وأن ّالحديث القدسيّ أوحيت ألفاظه من الله على المشهور، والحديث النّبوي أوحيت معانيه في غير ما اجتهد فيه الرّسول صلى الله عليه وسلم، والألفاظ من الرّسول صلى الله عليه وسلّم، بيد أنّ القرآن له خصائصه من الإعجاز والتّعبد به، ووجوب المحافظة على أدائه بلفظه، ونحو ذلك وليس للحديث القدسيّ والنّبوي شيء من هذه الخصائص. والحكمة في هذا التّفريق أنّ الإعجاز منوط بألفاظ القرآن، فلو أبيح أداؤه بالمعنى لذهب إعجازه، وكان مظنّة للتّغيير والتّبديل واختلاف النّاس في أصل التّشريع والتّنزيل، أمّا الحديث القدسيّ والحديث النّبويّ فليست ألفاظهما مناط إعجاز، ولهذا أباح الله روايتهما بالمعنى، ولم يمنحهما تلك الخصائص والقداسة الممتازة الّتي منحها القرآن الكريم تخفيفاً على الأمّة ورعاية لمصالح الخلق في الحالين من منح ومنع {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ}.