ابتدأ إنزال القرآن الكريم من مبعثه عليه الصَّلاة والسَّلام، وانتهى بقرب انتهاء حياته الشّريفة، وتقدّر هذه المدّة بعشرين، أو ثلاثة وعشرين، أو خمسة وعشرين عاماً، تبعاً للخلاف في مدّة إقامته في مكّة بعد البعثة، أكانت عشر سنين، أم ثلاث عشرة، أم خمس عشرة سنة، أمّا مدّة إقامته بالمدينة فعشر سنين اتّفاقاً. كذلك قال السُّيوطيّ.
ولكن بعض محقِّقي تاريخ التّشريع الإسلاميّ، يذكر أنَّ مدَّة مقامه بمكّة اثنتا عشرة سنة، وخمسة أشهر، وثلاثة عشر يوماً، من 17رمضان سنة 41 من مولده الشّريف، إلى أوّل ربيع الأوّل سنة 54 منه، أمّا مدّة إقامته في المدينة بعد الهجرة، فهي تسع سنوات، وتسعة أشهر، وتسعة أيّام من أوّل ربيع الأوّل سنة 54 من مولده إلى تاسع ذي الحجة سنة 63 منه. ويوافق ذلك سنة عشر من الهجرة. وهذا التَّحقيق قريبٌ من القول بأنَّ مدَّة إقامته في مكَّة ثلاث عشرة سنة، وفي المدينة عشر سنين، وأنَّ مدَّة الوحي بالقرآن ثلاثة وعشرون عاماً.
لكن هذا التَّحقيق لا يزال في حاجة إلى تحقيقات ثلاثة، ذلك لأنّه أهمل من حسابه باكورة الوحي إليه صلّى الله عليه وسلّم عن طريق الرّؤيا الصّادقة ستّة أشهر، على حين أنّها ثابتة في الصّحيح، ثمَّ جرى فيه على أنَّ ابتداء نزول القرآن كان ليلة السّابع عشرَ من رمضان”ن وهي ليلة القدر على بعض الآراء، غير أنّه يخالف المشهور الّذي يؤيّده الصّحيح، ثمّ ذهب فيه مذهب القائلين بأنّ آخر ما نزل من القرآن هو آية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}|، وذلك في تاسع ذي الحجة، سنة عشر من الهجرة، وسترى في مبحث “آخِر ما نزل من القرآن” أنّ هذا المذهب غير صحيح.
دليل تنجيم هذا النّزول:
والدّليل على تفرّق هذا النّزول وتنجيمه: قولُ الله تعالت حكمته في سورة الإسراء: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً}، وقوله في سورة الفرقان: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً}.
روي أنَّ الكفار من يهود ومشركين، عابوا على النّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم نزول القرآن مفرَّقاً، واقترحوا عليه أن ينزل جملةً، فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين ردّاً عليهم، وهذا الرّدّ يدلّ على أمرين:
أحدهما: أنَّ القرآن نزل مفرَّقاً على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
والثّاني: أنَّ الكتب السّماويّة من قبله نزلت جملة ،كما اشتهر ذلك بين جمهور العلماء، حتى كاد يكون إجماعاً.
ووجه الدَّلالة على هذين الأمرين: أنّ الله تعالى لم يكذبّهم فيما ادّعوا من نزول الكتب السّماويّة جملة، بل أجابهم ببيان الحكمة في نزول القرآن مفرّقاً، ولو كان نزول الكتب السّماويّة مفرّقا كالقرآن، لرد عليهم بالتّكذيب وبإعلان أنّ التّنجيم هو سنة الله فيما أنزل على الأنبياء من قبل، كما ردّ عليهم بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} . حين طعنوا على الرسول وقالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} ؟. اهـ من سورة الفرقان.