الموضوع الخامس
لِمَاذَا لَمْ تُدَوَّنْ السُنّةُ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ صلّى الله عليه وسلّمَ؟ وَهَلْ كُتِبَ عَنْهَا شَيْءٌ فِي حَيَاتِهِ؟:
لا يختلف اثنان من كُتَّابِ السّيرة وعلماء السُنَّةِ وجماهير المُسْلِمِينَ، في أنّ القرآن الكريم قد لقي من عناية الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصّحابة الكرام؛ ما جعله محفوظًا في الصّدور، ومكتوباً في الرّقاع، والسّعف، والحجارة، والسّطور، حتّى إذا توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كان القرآن محفوظاً مرتّباً لا ينقصه إلا جمعه في مصحف واحد، وقد تم جمعه بالإجماع في عهد الخلفاء الراشدين المهديين.
أمّا السُنَّةُ؛ فلم يكن شأنها كذلك، على الرّغم من أنّها مصدر هامّ من مصادر التّشريع في عهد الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، ولا يختلف أحد في أنّها لم تُدَوَّنْ تَدْوِيناً رَسْمِيّاً كما دُوِّنَ القرآن، ولعلّ مرجع ذلك إلى أنّ الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاش بين الصّحابة ثلاثاً وعشرين سَنَةً، فكان تدوين كلماته وأعماله ومعاملاته تدويناً محفوظاً في الصّحف والرّقاع من العُسْرِ بمكان، لما يحتاج إلى تفرّغ أناسٍ كثيرين من الصّحابة لهذا العمل الشّاقّ، ومن المعلوم أنَّ الكاتبين كانوا من القلّة في حياة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، بحيث يُعدّون بالأصابع، وما دام القرآن الكريم هو المصدر الأساسي الأوّل للتّشريع، والمعجزة الخالدة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فليتوفّر هؤلاء الكُتَّابِ على كتابته دُونَ غيره مِنَ السُنَّةِ، حتّى يُؤَدُّوهُ لمن بعدهم مُحُرَّراً مضبوطاً تامّاً لم ينقص منه حرف واحد.
وشيء آخر وهو: أنّ العرب بسبب أمّيتهم، كانوا يعتمدون على ذاكرتهم وحدها فيما يَوَدُّونَ حفظه واستظهاره، فالتّوفر على حفظ القرآن الكريم مع نزوله مُنَجَّماً على آيات وسور صغيرة، ميسور لهم، وداعية إلى استذكاره، والاحتفاظ به في صدورهم، فلو دُوِّنَتْ السُنَّةُ كما دُوِّنَ القرآن-وهي واسعة كثيرة النّواحي، شاملة لأعمال وأقوال الرّسول صلّى الله عليه وسلّم التّشريعيّة، وأقواله منذ بدء رسالته إلى أن لحق بربِّه-، لَلَزِمَ انكبابَهم على حفظ السُنَّةِ مع حفظ القرآن، وفيه من الحرج ما فيه، عدا اختلاط بعض أقوال النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلّم الموجزة الحكيمة بالقرآن سَهْواً من غير عمد، وذلك خطر على كتاب اللهِ تعالى، إذ يفتح باب الشّكّ فيه لأعداء الإسلام، مِمَّا يتّخذونه ثغرة ينفُذون منها إلى المُسْلِمِينَ، لحملهم على التَحَلُّلِ من أحكامه، والتَّفلُّت من سلطانه، كلّ ذلك وغيره – مِمَّا توسّع العلماء في بيانه – من أسرار عدم تدوين السُنَّةِ في عهد الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، وبهذا نفهم سِرَّ النّهي عن كتابتها الوارد في “صحيح مسلم”، عن أبي سعيد الخُدري عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ تَكْتُبُوا عَنِّي، وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ».
وهذا لا يمنع أن يكون قد كتب في عصر الرّسول صلّى الله عليه وسلّم شيءٌ مِنَ السُنَّةِ، لا على سبيل التَّدوين الرّسمي، كما كان يُدَوِّنُ القرآن، وهناك آثار صحيحة تدلُّ على أنَّه وقع كتابةُ شيءٍ مِنَ السُنَّةِ في العصر النّبويّ، فقد أخرج البخاريُّ في “صحيحه” في كتاب العلم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا رَجُلاً مِنْ بَنِي لَيْثٍ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ، بِقَتِيلٍ مِنْهُمْ قَتَلُوهُ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَخَطَبَ، فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ القَتْلَ، أَوِ الفِيلَ» (1)، وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَالمُؤْمِنِينَ، أَلاَ وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ بَعْدِي، أَلاَ وَإِنَّهَا حَلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، أَلاَ وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ حَرَامٌ، لاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلاَ تُلْتَقَطُ سَاقِطَتُهَا إِلاَّ لِمُنْشِدٍ، فَمَنْ قُتِلَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُعْقَلَ، وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ أَهْلُ القَتِيلِ» (2) فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ فَقَالَ: “اكْتُبْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ “، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ : «اكْتُبُوا لأَبِي شَاهٍ» (3).
كما ثبت أنَّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب إلى ملوك عصره، وأمراء جزيرة العرب كُتُباً يدعوهم فيها إلى الإسلام، (4) وكان ينفّذ مع بعض أمراء سراياه كُتُباً، ويأمرهم أن لا يقرؤوها إلا بعد أن يجاوزوا موضِعاً مُعيَّناً.
كما ثَبَتَ أن بعض الصّحابة كانت لهم صُحُفٌ يُدَوِّنُونَ فيها بعض ما سمعوه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كصحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص، الّتي كان يسميها بـ “الصّادقة”، فقد أخرج أحمد والبيهقيّ في “المدخل” عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: «مَا كَانَ أَحَد أَعْلَم بِحَدِيثِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنِّي، إِلاَّ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو، فَقَدْ كَانَ يَكْتُبُ وَلاَ أَكْتُبُ»، وكتابة عبد الله بن عمرو استرعت أنظار بعض الصّحابة الّذين قالوا: إنّك تكتب عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ مَا يَقُولُ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ يَغْضَبُ، فَيَقُولُ مَا لاَ يُتَّخَذُ شَرْعاً عَامّاً، فرجع ابنُ عمرو إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له: «اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مِنْهُ إِلاَّ [حَقٌّ]» (5).
وثبت أنّه كان عند عليٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ صحيفة فيها أحكام الدّية على العاقلة وغيرها، (6)، كما ثبت أنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب لبعض عُمَّالِهِ كُتُباً، حَدَّدَتْ فيها مقادير الزّكاة في الإبل والغنم (7)، وفي اللّقاء المقبل بإذن الله تعالى سنوضّح ونبيّن التّوفيق بين أحاديث النّهي عن الكتابة، وبين هذه الآثار الّتي تدلّ على الإذن بها، والحمد لله ربّ العالمين.
=======================================
(1) شَكٌّ مِنَ البُخَارِيِّ.
(2) أي يقاد لهم من القاتل، كما في فتح الباري: 12/ 175.
(3) أخرجه البخاري، والدارمي، والترمذي، والإمام أحمد.
(4) انظر طبقات ابن سعد: 2/ 22 – 56.
(5) أخرجه ابن عبد البرِّ في جامع بيان العلم وفضله: 1/ 76، عن ابن عمرو.
(6) المصدر السّابق، والرّقم السّابق.
(7) المصدر والرّقم السّابقان.