الموضوع الرّابع (4):
كيف تلقّى الصّحابةُ رضي الله عنهم سنّة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم؟ وكيف يجب أن نتعامل مع السّنّة النّبويّة في كلّ زمان ومكان؟
كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعيش بين أصحابه دُونَ أن يكون بينه وبينهم حجاب، فقد كان يخالطهم في المسجد والسوق والبيت والسفر والحضر، وكانت أفعاله وأقواله محل عناية منهم وتقدير، حيث كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محور حياتهم الدينية والدنيوية، منذ أن هداهم الله به وأنقذهم من الضلالة والظلام إلى الهداية والنور، ولقد بلغ من حرصهم على تتبعهم لأقواله وأعماله، أن كان بعضهم يتناوبون ملازمة مجلسه يَوْماً بعد يوم، فهذا سيّدُنا عمر بنُ الخطاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُحَدِّثُنَا عنه ” البخاري ” بسنده المتصل إليه، يقول: «كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنَ الأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ – وَهِيَ مِنْ عَوَالِي المَدِينَةِ – وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ اليَوْمِ مِنَ الوَحْيِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ» وليس هذا إلا دليلاً على نظر الصحابة إلى رسول اللهِ نظرة اتِّبَاعٍ واسترشاد برأيه وعمله، لما ثبت عندهم من وجوب اتباعه والنزول عند أمره ونهيه، ولهذا كانت القبائل النائية عن المدينة ترسل إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعض أفرادها ليتعلموا أحكام الإسلام من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم يرجعون إليهم معلمين ومرشدين.
بل كان الصحابي يقطع المسافات الواسعة ليسأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن حكم شرعي، ثم يرجع لا يلوي على شيء، أخرج البخاري في صحيحه، عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه، أنه أخبرته امرأة بأنها أرضعته هو وزوجه، فركب من فوره – وكان بمكة – قاصداً المدينة حتى بلغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسأله عن حكم الله فيمن تزوج امرأة لا يعلم أنها أخته من الرضاع، ثم أخبرته بذلك من أرضعتهما، فقال له النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟» ففارق زوجته لوقته فَتَزَوَّجَتْ بِغَيْرِهِ.
وكان من عادتهم أن يسألوا زوجات النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يتعلق بشؤون الرجل مع زوجته، لعلمهن بأحوال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العائلية الخاصة، كما في قصة الصحابي الذي أرسل امرأته تسأل عن تقبيل الصائم لزوجته فأخبرتها أم سلمة رضي الله عنها: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ» (1).
كما كانت النساء تذهب إلى زوجات النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأحياناً يسألن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يشأن السؤال عنه من أُمُورِهِنَّ، فإذا كان هنالك ما يمنع النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التصريح للمرأة بِالحُكْمِ الشَّرْعِيِّ أَمَرَ إحدى زوجاته أن تفهمها إياه، كما جاء أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ تَتَطَهَّرُ مِنَ الحَيْضِ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ: «خُذِي فِرْصَةً مُمَسَّكَةً فَتَوَضَّئِي بِهَا» فَقَالَتْ: ” يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ أَتَوَضَّأُ بِهَا؟ ” فَأَعَادَ كَلاَمَهُ السَّابِقَ عَلَيْهَا فَلَمْ تَفْهَمْ، فَأَشَارَ إِلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنْ تُفْهِمَهَا مَا يُرِيدُ، فَأَفْهَمَتْهَا المُرَادَ، وَهُوَ أَنْ تَأْخُذَ قِطْعَةَ قُطْنٍ نَظِيفَةٍ فَتَمْسَحَ بِهَا أَثَرَ الدَّمِ» (2).
غير أن الصحابة لم يكونوا جميعاً على مبلغ واحد من العلم بأحوال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقواله، فقد كان منهم الحضري والبدوي، ومنهم التاجر والصانع، والمنقطع للعبادة الذي لا يجد عملاً، ومنهم المقيم في المدينة، ومنهم المكثر من الغياب عنها، ولم يكن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجلس للتعليم مجلساً عَامًّا يجتمع إليه فيه الصحابة كلهم إلا أحياناً نادرة، وإلاَّ أيام الجمعة والعيدين وفي الوقت بعد الوقت، فقد أخرج البخاري عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِالمَوْعِظَةِ فِي الأَيَّامِ، كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا»، ومن هنا يقول مَسْرُوقٌ: «جَالَسْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدْتُهُمْ كَالإِخَاذِ (الغَدِيرُ)، فَالإِخَاذُ يَرْوِي الرَّجُلَ، وَالإِخَاذُ يَرْوِي الرَّجُلَيْنِ، وَالإِخَاذُ يَرْوِي الْعَشَرَةَ، وَالإِخَاذُ يَرْوِي المِائَةَ، وَالإِخَاذُ لَوْ نَزَلَ بِهِ أَهْلُ الأَرْضِ لأَصْدَرَهُمْ»، وطبيعي أن يكون أكثر الصحابة علماً بِسُنَّةِ الرسول الذين كانوا أسبقهم إسلاماً كالخلفاء الأربعة وعبد الله بن مسعود، أو أكثرهم ملازمة له وكتابة عنه كأبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهم.
==================================================
(1) أخرجه مسلم عن عمر بن أبي سلمة، وأخرجه الشافعي أيضاً في الرسالة: ص 404 مرسلاً عن عطاء.
(2) أخرجه ” البخاري “، و” مسلم “، و” النسائي ” عن عائشة، وقال المطرّزي في ” المغرب “: 2/ 20 في تفسير «فَتَوَضَّئِي بِهَا» أَيْ: امْسَحِي بِهَا أَثَرَ الدَّمِ.