نقصد بفنّ البيان هنا: علوم البلاغة الثَّلاثة، والبيان يطلق، ويراد به: علم البيان الخاصِّ، وعلم المعاني، وعلم البديع.
أهمّية هذا العلم:
تأتي أهمّية هذا العلم، في كونه داخلاً في مفهوم علوم اللّغة، وعلوم اللّغة هي مفتاح لفهم الشّريعة، وشرطٌ لصحّة الاجتهاد، ولا يصح لمجتهد أن يجتهد إلّا إذا تحقّق بعلوم اللّغة، وأهمّ علوم اللّغة على جهة التّرتيب: النّحو، ثم الصّرف، ثم البيان.
موقع علم البيان بين علوم اللُّغة:
ممّا لا شكّ فيه بأنَّ علم البلاغة يتعلّق بالمعنى، وعلم النّحو يتعلّق بالإعراب، وعلم الصّرف يتعلّق بالأبنية والصّيغ، فحينئذٍ تقاسمت العلوم الثلاثة الكلمات، وكذلك الجمل، إذاً: علم النّحو يتعلّق بآخر الكلمة على جهة الإعراب والبناء، وهو علم بأصولٍ يعرف بها أحوال أواخر الكلم إعرابًا وبناءً، والإعراب والبناء إنما يكون بعد إدخال الكلمة في جملة مفيدة، فحينئذٍ يأتي السّؤال: هل هذه الكلمة معربة أو مبنيّة؟ أمّا قبل ذلك فلا توصف الكلمة بكونها معربةً ولا مبنيّةً، إذًا هي موقوفة فيها كما هو الصّحيح من أقوال النحاة من أقوال ثلاث في هذه المسألة.
فعلم المعاني علم مهمّ جدًا، إذ هو يعرف به الإعجاز القرآني من حيث التّحدي حيث تحدى القرآن به المشركين، في أن يأتوا بمثل هذا القرآن، لا في تراكيبه ولا في مفرداته ولا في مدلولاته، بل كما قال بعضهم: لو أخذ شخص ما كلمة من آية، ووضع محلّها ما وضع، لما استطاع أن يأتي بمثل بما كانت عليه من الترّكيب، ووصف بعضهم بأنّ علم البيان يعتبر كالرّوح للإعراب، كما قال الأخضري في ((الجوهر)):
لأنّه كالرّوح للإعراب وهو لعلم النّحو كاللُّباب
إذًا هذه العلوم الثلاثة متلازمة؛ النّحو، والصّرف، والبيان، على خلاف من شاع عند المشتغلين بالعلم الشّرعي أنّه لا بدّ أن يركّز على النّحو، ثمّ يترك ما سواه، نعم؛ النّحو أهمّها، ويأتي بعدها في المرتبة الصّرف، ويأتي في المرتبة الثّالثة علم البيان، لكنّها متلازمة من حيث الدّلالات، لا يمكن أن يفهم النّحو على وجهه إلا بفهم الصّرف والبيان، ولا يمكن أن يفهم الصّرف على وجهه به إلا بفهم النّحو والبيان، كذلك البيان هذا ثمرة علم النّحو، كالعمل بالنّسبة للعلم، وإذا وجد العلم بلا عمل، حينئذٍ كالشّجر بلا ثمر فلا فائدة فيه، وكذلك علم البيان ثمرة النّحو، فإذا لم يكن ثمرة، فحينئذٍ لا فائدة من النّحو، وإنّما يكون علمًا جافّاً ظاهريّاً، وأما الغوص فيه فهذا يكون لأهله.
قال الثَّعَالَبِيُّ في كتابه ((الإعجاز والإيجاز)): “من أراد أن يعرف جوامع الكلم، ويتنبّه على فضل الإعجاز والاختصار، ويحيط ببلاغة الإيماء، ويفطن لكفاية الإيجاز، فليتدبّر القرآن، وليتأمّل علوّه على سائر الكلام “. وهذا يدلّ على أنّ الأصل في فهم بلاغة العرب إنّما هو القرآن، ولذلك نقول دائماً: من أراد أن يُحِيطَ بفنّ البلاغة فليأخذ مختصراً مما يُرشد بيان مصطلحات أهل العلم، ثم ليعتكف على تفاسير أهل العلم خاصّة ممّا يعتني بلسان العرب في تفسير القرآن مع المأثور، ولا شكّ في أنّه أصل لكن يجمع بين المأثور وغيره، بأن يجعل نصيبًا وحظًّا وافرًا للكتب الّتي تعتني بالإعراب، وبيان وجوه الصّرف، وكذلك البلاغة، فمن أراد بيان جوامع الكلم حينئذٍ فليعتكف على القرآن، بعد أن يأخذ نصيباً وافراً من فهم مصطلحات أهل الفنّ، على خلاف ما شاع عند البعض من أنه يجعل الدّواوين ولسان العرب والأشعار والمنثورات مما أُثِرَ عن العرب أنّه أصل في فهم بلاغة العرب، والعكس هو الصّحيح، نعم قد تــ يخفى بعض مدلولات القرآن لأنّه نزل بلسان عربي مبين، فحينئذٍ ترجع إلى لسان العرب من حيث النّقل، يعني: ما نقل عنهم في المنظوم والمنثور، وتنظر ماذا استخدموا في هذه الكلمة، وماذا عنوا بها، لكن لا يكون هو الأصل، ولا يكون طالب العلم معتكفاً على المعلّقات، وعلى الدّواوين ويجعله أصلاً، ثم تشغله وتأخذ عمره عن الاشتغال بالقرآن، بل من كان في صدره القرآن ولو جزءاً منه فحينئذٍ يكون قد جمع في صدره مفردات وتراكيب لا نظير لها في لسان العرب البتّة، لا بد أن يكون على يقين من هذا، فتراكيب القرآن أعلى درجات التّركيب، وكلمات القرآن الموجودة في أعلى درجات الفصاحة من حيث الإفراد ومن حيث التّركيب، وخير الكلام ما طَرُفَتْ معانيه، وشَرُفَتْ مبانيه، والتَّذَّتهُ أذان السامعين، وهذا أعلى ما يصدق على القرآن.
وسنأتي في لقاءاتنا المقبلة بإذن الله تعالى، على شرح أبواب فنّ البيان، والحمد لله ربّ العالمين.