الموضوع الرابع
حَدِيْثُ: أَوّلُ ما نَزَل من الوحي القرآنيِّ، ومفرداتُه اللُّغويّة
كنَّا في الموضوع السَّابق (الوحيُ القرآنيّ) قد وقفنا على أهمِّيَّة معرفة حقيقة الوحي، وأنواعِه، ووقعِه على رسول اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، وفي لقائنا المتجدِّدِ، هذا؛ سنتعرّفُ على أوَّلِ ما نزل من القرآنِ الكريمِ، وفقَ ما وردَ عن الهَديِ النّبويِّ، إذ كانَ أوَّلُ ما نزل من القرآن الكريم، صدرَ سورة (اقرأ)، فقد أخرج البخاري ومسلم، عن عائشة أمِّ المؤمنين رضي الله عنها، أنَّها قالت: أوّلُ ما بُدئَ به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الوحي الرّؤيا الصّالحة في النّوم، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصّبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنّثُ فيه- وهو التعبّد- اللّياليَ ذواتِ العدد، قبل أن ينزِعَ إلى أهله، ويتزوّدَ لذلك، ثم يرجعَ إلى خديجة، فيتزوّدَ لمثلها، حتّى جاءه الحقّ، وهو في غار حراء، فجاءه الملك. فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ (1)، فأخذني فغطّنيْ، حتى بلغ منّي الجَهدَ، ثمّ أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّنيْ الثّانية، ثمّ أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّني الثّالثة، ثمّ أرسلني، فقال:((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5)، فرجع بها رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: زمّلوني. زمّلوني، فزمّلوه، حتّى ذهب عنه الرّوع، فقال لخديجة، وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلّا، والله ما يخزيك الله أبداً، إنّك لتصل الرّحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضّيف، وتعين على نوائب الحقّ، فانطلقت به خديجة، حتّى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى(2)، وكان امرأً نصرانيّاً في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبرانيّ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانيَّة ما شاء اللهُ أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً، قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك ، فقال له ورقة: يا ابن أخي(3): ماذا ترى؟، فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا النَّاموس الَّذي نزّل اللهُ على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حيّاً إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَم: أو مخرجيّ هم؟! قال: نعم، لم يأت رجل قطّ بمثل ما جئت به إلّا عودي، وإن يدركْني يومك؛ أنصرْك نصراً مؤزّراً، ثمَّ لم ينشب(4) ورقة أن توفّي، وفتر الوحي (5)].
إنّ حديث السّيّدة عائشة رضي الله عنها هذا، قد تضمّن مفردات لغويّةً هي بحاجة إلى توضيح، وبيان، حتّى يستطيع القارئ استيعابَ ما جاء فيه من الأفكار.
مفردات الحديث اللّغويّة:
أمّا قوله: (مثل فلق الصبح)، أي؛ ضياؤه الصّادق، فقد شبّهت الرّؤيا الصّادقة بضياء الصّبح وسطوع نوره، وخصّ التّشبيه بهذا، لعلاقة الظّهور الواضح الّذي لا لبس فيه ولا ريب.
(ثم حُبّب إليه الخلاء): جيء بــــ (حُبِّبَ) بصيغة المجهول، لإسقاط الباعث له، وإظهار الفاعل الحقيقيّ للحبّ؛ وهو الله جلّ وعزّ، ففيه إشارة: إلى أنّ باعث البشر عليه منعدم، وأنّ ذلك بوحي الإلهام قد تحقّق.
والخلاء: الخلوة، وكان محبَّباً له، لأنّه يفرّغ القلب عما يشغله عن التوجّه إلى ربِّه سبحانه.
غار حراء: الغار: نقب في الجبل، وجمعه: غيران، وحراء: جبل معروف بمكَّة، أطلق عليه بعد الوحي اسم جبل (النُّور).
(فيتحنث فيه- وهو التّعبد- اللّيالي ذوات العدد): التّحنّث: التحنّف؛ أي: يتبع الحنيفيّة، وهي دين إبراهيم عليه السّلام، والفاء تبدل ثاء في بعض كلام العرب، ويقوي ذلك رواية ابن هشام في السِّيرة (يتحنَّف)، وإمّا أن نفسّرها بإلقاء الحنث، وهو الإثم- كما قيل- يتأثّم أو يتحرّج.
(ذوات العدد): إبهام لها، لاختلاف المِدَدِ الّتي كانت يتخلّلها مجيئه صلّى الله عليه وسلّم، إلى أهله، أمّا أصل الخلوة: فقد عرفنا أنها مُدّتها، وذلك الشّهر الذي نزل عليه الوحي فيه كان شهر رمضان، كما جاء في رواية ابن إسحاق.
(ينزع): يرجع.
(التزود): استصحاب الزاد.
(حتّى جاءه الحق): أي: جاءه الأمر الحقّ، وفي رواية (حتّى فَجَأَهُ الحقّ)؛ أي: بغته.
(ما أنا بقارئ ثلاثاً): لماذا كرَّرها ثلاثاً؟ وما معناها في كلّ مرة؟ والجواب: كرّرت ثلاثاً للتَّقوية والتأكيد، ففي المرَّة الأولى: أفادت الامتناع، ف(ما) هنا: نافية، والباء: زيادة في التَّأكيد، أي: ما أحسن القراءة، وفي المرَّة الثَّانية: أفادت النّفي المحض، وفي المرَّة الثَّالثة: أفادت الاستفهام، ويؤيّد هذا، رواية عروة في مغازي أبي الأسود أنَّه قال: كيف أقرأ؟، وعند ابن إسحاق: ماذا أقرأ؟، وفي مرسل الزهري عند البيهقي في الدلائل: كيف أقرأ؟، فهذه الروايات جميعاً تقرّر الاستفهام (6).
(فغطّني، حتّى بلغ منّي الجهد): فغطّني: وفي رواية: فغتّني، ويراد منها: ضمّني، وعصرني، والغطّ: حبس النَّفَس، ومنه غطّه في الماء، أو أراد: غمّني، ولأبي داود الطّيالسي في مسنده بسند حسن [فأخذ بحلقي].
(الجَهد): غاية وسعي.
(زمّلوه): لفّوه أو ضمّوه.
(الرّوع): الفزع.
(خشيت على نفسي): الخشية هنا اختلف فيها كثيراً، وأقربها للصّواب: أنّه صلّى الله عليه وسلّم خشي على نفسه الموت من شدّة الرّعب، أو المرض، أو دوامه.
(كلّا، والله ما يخزيك الله أبداً): كلّا: تعني النّفي والإبعاد، و: ما يخزيك، نفي الخزي، وفي رواية (ما يحزنك): نفي الحزن.
(الكَلّ): من لا يستقلّ بأمره، كما قال الله تعالى: (وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ). (7)
(المعدوم): الفقير، لأنّ المعدوم لا يكسب، والكسب: هو الاستفادة.
(نوائب الحقّ): كلمة جامعة لأفراد ما تقدّم، وَلِمَا لم يتقدّم.
(الناموس): صاحب السرّ، وقيده بعضهم في البحر. والمراد به: جبريل عليه السلام.
(وكان امرأً نصرانيّاً) كان ورقة بن نوفل قد خرج هو وزيد بن عمرو بن نفيل، حين كرها عبادة الأوثان إلى الشَّام وغيرها، يسألان عن الدّين، فورقة بن نوفل: أعجبته النّصرانيَّة فتنصّر، وكان قد لقي من بقي من الرُّهبان على دين عيسى عليه السلام، ولم يبدّل.
لذا: فقد أخبر بشأن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، والبشارة به، وغير ذلك مما أفسده أهل التَّبديل.
ويبقى إشكالٌ، وهو: لماذا ورقة الذي يدين بالنّصرانيّة، يذكر موسى بنزول النّاموس عليه؟ أما كان الأَولَى أن يذكر عيسى عليه السّلام؟ ولحلّ هذا الإشكال، نــجيب بأجوبة متنوِّعة، منها:
1 – لأنّ كتاب موسى عليه السّلام، مشتمل على أكثر الأحكام، بخلاف كتاب عيسى عليه السّلام.
2 – ولأنَّ موسى عليه السّلام، بعث بالنقمة على فرعون ومن معه، بخلاف عيسى عليه السّلام، وكذلك وقعت النقمة على يد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بفرعون هذه الأمّة أبي جهل بن هشام، ومن معه ببدر.
3 – أو لأنّه قاله تحقيقاً للرّسالة، فنزول جبريل عليه السّلام على موسى عليه السّلام، متفق عليه بين أهل الكتاب، بخلاف عيسى عليه السّلام ، فكثير من اليهود ينكرون نبوّته، يقول العلّامة ابن حجر رحمه الله تعالى: «نعم؛ في دلائل النبوّة لأبي نعيم بإسناد حسن، إلى هشام بن عروة عن أبيه في هذه القصّة: [أنّ خديجة رضي الله عنها أتت أوَّلاً ابنَ عمّها ورقة، فأخبرته الخبر، فقال:((لئن كنت صدقتني، إنَّه ليأتيه ناموس عيسى عليه السّلام، الَّذي لا يُعَلِّمُهُ بنو إسرائيل أبناءَهُم]، فعلى هذا: كان ورقة يقول تارة (ناموس عيسى) وتارة (ناموس موسى)، فعند إخبار السّيدة خديجة رضي الله عنها، له بالقصّة، قال لها: ناموس عيسى عليه السّلام، بحسب ما هو فيه من النّصرانيّة، وعند إخبار النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم له، قال له: (ناموس موسى عليه السّلام). للمناسبة التي قدّمناها، وكلٌّ صحيح(8).
=======================================
(1) ما أحسن القراءة.
(2) هو ابن عمّ خديجة.
(3) كان من عادة العرب مناداة كبير السن للشاب يا ابن أخي تحبباً.
(4) أَيْ لَمْ يَلْبَثْ.
(5) صحيح البخاري، (1/7) طبعة: دار طوق النجاة، بإضافة ترقيم ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي- الطبعة: الأولى، 1422هـ.
(6) بتصرف عن فتح الباري، لابن حجر العسقلاني (1/ 35) طبعة:دار المعرفة – بيروت، 1379 – رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي.
(7) النحل/ 76/.
(8) بتصرف عن فتح الباري، لابن حجر: (1/ 38).