المَوضُوعُ الثّاني (2)
الْفَرْقُ بَـــيْن الْفِقْهِ وَعِلْمِ أُصُوْلِ الْفِقْهِ
يحتاجُ طالبُ العلمِ خاصّةً، والمُحبُّ لعِلْمَيْ الفقهِ وأصولِه عامَّة، إلى موازنةٍ ومقاربةٍ بينَ هذينِ العِلْمَيْنِ؛ من حيثُ التَّعريفُ بكلٍّ منهما، وبيانُ موضوعِهما، وغايتِهما، ونشأتِهما، وتطوّرِهما.
أوَّلاً: التّعريف: فعلم الفقه في الاصطلاح الشرعي؛ هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية.
وقد ثبت للعلماء بالاستقراء، أنّ الأدلة التي تستفاد منها الأحكام الشرعية العملية ترجع إلى أربعة: القرآن والسنة والإجماع والقياس، وأن أساس هذه الأدلة هو القرآن، ثم السنَّة التي فسّرت مجمله، وخصصت عامه، وقيدت مطلقه، وكانت تبياناً له وتماماً.
ولهذا بحثوا في كل دليل من هذه الأدلة وفي البرهان على أنه حجة على الناس ومصدر تشريعي يلزمهم اتباع أحكامه، وفي شروط الاستدلال به وفي أنواعه الكلية، وفيما يدل على كل نوع منها من الأحكام الشرعية الكلية.
وبحثوا أيضاً في الأحكام الشرعية الكلّية التي تُستفاد من تلك الأدلة، وفيما يتوصل به إلى فهمها من النصوص، وإلى استنباطها من غير النصوص من قواعد لغوية وتشريعية.
وبحثوا أيضاً فيمن يتوصل إلى استمداد الأحكام من أدلتها وهو المجتهد، فبينوا الاجتهاد وشروطه والتقليد وحكمه.
ومن مجموعة هذه القواعد والبحوث المتعلقة بالأدلة الشرعية من حيث دلالتها على الأحكام، وبالأحكام من حيث استفادتها من أدلتها ومما يتعلق بهذين من اللواحق والمتممات تكونت أصول الفقه.
فعلم أصول الفقه في الاصطلاح الشرعي:
هو العلم بالقواعد والبحوث التي يُتوصل بها إلى استفادة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، أو هي مجموعة القواعد والبحوث التي يُتوصل بها إلى استفادة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية.
ثانياً: الموضوع:
موضوع البحث في علم الفقه: هو فعل المكلف، من حيثُ ما يثبت له من الأحكام الشرعية، فالفقيه يبحث في صلاة المكلف وصومه وحجّه وبيعه وإجارته ورهنه وتوكيله وقتله وقذفه وسرقته وإقراره ووقفه؛ لمعرفة الحكم الشرعي في كل فعل من هذه الأفعال.
وأما موضوع البحث في علم أصول الفقه:
فهو الدليل الشرعي الكلي من حيثُ ما يثبت به من الأحكام الكلّية، فالأصولي يبحث في القياس وحجيته، والعام وما يقيده، والأمر وما يدل عليه، وهكذا..
ثالثاً: الغاية المقصودة بهما:
الغاية المقصودة من علم الفقه؛ هي تطبيق الأحكام الشرعية على أفعال الناس وأقوالهم، فالفقه هو المرجع القاضي في قضائه، والمفتي في فتواه، ومرجع كل مكلف لمعرفة الحكم الشرعي فيما يصدر عنه من أقوال وأفعال، وهذه هي الغاية المقصودة من كل القوانين في أيّة أمّة، فإنها لا يقصد منها إلا تطبيق موادها وأحكامها على أفعال الناس وأقوالهم وتعريف كل مكلف بما يجب عليه وما يحرم عليه.
وأما الغاية المقصودة من علم أصول الفقه:
فهي تطبيق قواعده ونظرياته على الأدلة التفصيلية للتوصل إلى الأحكام الشرعية التي تدل عليها، فبقواعده وبحوثه تُفهم النصوص الشرعية، وبقواعده وبحوثه يُفهم ما استنبطه الأئمة المجتهدون حق فهمه، ويوازن بين مذاهبهم المختلفة في حكم الواقعة الواحدة، لأن فهم الحكم على وجهه والموازنة بين حكمين مختلفين لا يكون إلا بالوقوف على دليل الحكم ووجه استمداد الحكم من دليله، ولا يكون هذا إلا بعلم أصول الفقه؛ فهو عماد الفقه المقارن.
رابعاً: نشأة كل منهما وتطوّره:
نشأت أحكام الفقه مع نشأة الإسلام، لأن الإسلام هو مجموعة من العقائد والأخلاق والأحكام العملية، وقد كانت هذه الأحكام العملية في عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم – مكونة من الأحكام التي وردت في القرآن، ومن الأحكام التي صدرت من الرسول – صلى الله عليه وسلم.
أما علم أصول الفقه فلم ينشأ إلا في القرن الثاني الهجري، حيث اتسعت الفتوح الإسلامية واختلط العرب بغيرهم، واستدعى ذلك وضع ضوابط وبحوث في الأدلة الشرعية وشروط الاستدلال بها وكيفية الاستدلال بها، ومن مجموعة هذه البحوث الاستدلالية وتلك الضوابط اللغوية تَكوّن علم أصول الفقه.
وأول من جمع هذه المتفرقات مجموعة مستقلة في سِفْر على حدة، الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة كما ذكر ابن النديم في الفهرست ولكن لم يصل إلينا ما كتبه.
وأول من دون من قواعد هذا العلم وبحوثه مجموعة مستقلة مرتبة مؤيداً كل ضابط منها بالبرهان ووجهة النظر فيه الإمام محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة 204 للهجرة، فقد كتب فيه رسالته الأصولية التي رواها عنه صاحبه الربيع المرادي، وهي أول مدوّن في العلم وصل إلينا فيما نعلم، ولهذا اشتهر على ألسنة العلماء أنّ واضع أصول علم الفقه الإمام الشافعي رضي الله عنه.