المَوضُوعُ الثَّالِثُ (3)
الوحيُ القرآنيّ:
نقطةُ البدايةِ في علوم القرآنِ الكريمِ، تكونُ من فنّ الوحي من السَّماء، فهو الأساسُ، وعليه تُبنى لَبِنَاتُ المعارف القرآنيّة.
فما حقيقة الوحي إذاً؟.
قبل أن نحدّد له حقيقة، علينا أن نعلم أنّه غيب من غيوب الله تعالى، يُطْلعُ عليه من يشاء من رسله، أمّا ما سواهم: فهم محجوبون عنه، وهو عنهم في حجاب.
وقد حدّ له في لسان الشرع حدّاً، حتَى لا يدّعيه المدّعون، ويلتبس عن النّاس هويّته.
فقيل فيه: [إنّه فنّ إعلام الله تعالى من اصطفاه من عباده، عمّا يريده لهم من ألوان الهداية، وفنون العلوم، بطريقة سريّة خفيّة، وغير معتادة للبشر، بيد أنّ لها مؤشراتٍ تدلّ على صاحبه].
والدين كلّه لن يقبل، إلّا لمن صدّق بالوحي وأساليبه، وما هو من لوازمه، وإلّا فلا فائدة من حلّ ما سنعرضه من فنون القرآن، وخصائصه.
أنواع الوحي:
الوحي بالمعنى الذي تقدم؛ هل له نمط واحد؟ أم هو ذو أنماط؟.
أجل؛ إنّه ذو أنماط شتّى، في النهاية تؤدي وظيفة واحدة، ولله فيها حكم وأسرار، فما تلك الأنماط الوحييّة؟.
هي- كما دوّنت في مصادرها- أربعة أساسية:
1 – ما يكون كفاحا بين الله وعبده، وذلك كما كلّم الله سيّدنا موسى عليه السلام، وكما كلّم الله سيدنا محمداً ليلة الإسراء، قال الله تعالى: ( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً). النساء/ 164/.
2 – ما يكون إلهاماً: وهو ما يقذفه الله في قلب مصطفاه، على وجه اليقين.
3 – ما يكون مناماً صادقاً: يجيء في تحققه ووقوعه، مثل فلق الصبح في تبلّجه وسطوعه، وهو أوّل ما يبدأ به الموحى إليه من الأنبياء، فقد أخرج البخاري عن أمِّنا عائشةَ رضي الله عنها أنّها قالت: [أوّل ما بدئ به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من الوحي الرؤيا الصالحة في النَّوم، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح].
4 – ما يكون بواسطة أمين الوحي جبريل عليه السلام، وهو ملك كريم، ذو قوّة عند ذي العرش مكين، مطاع ثمّ أمين، وهذا النوع هو الأشهر، والأكثر في إرساليات الوحي للأنبياء، والقرآن الكريم كلّه من هذا القبيل، واصطلح عليه باسم: (الوحي الجليّ).
قال الله تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ(193)عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ). الشّعراء/ 193 – 194 – 195 – /، وهذا النوع أيضا هو المحدّد في هوية النّبيّ، المرسل من ربّه.
أمّا الأنواع الأخرى، فقد يشاركه فيها من سواه من البشر، لكنّها باقية في دائرة الأنواع أو الأنماط.
الوحي الجليّ:
– إذا علمنا أنّ الوحي الجليّ هو العلامة الفارقة ما بين النبي والبشر، يتحتّم علينا أنّ نلمّ بأحوال هذا النوع، حتى لا تختلط المسائل علينا، ويمكن أن نطلق عليها هيئات الوحي، فما تلك الهيئات؟
لم يهبط جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم بهيئة واحدة، وإنّما تعدّدت الهيئات، فتارة يظهر في صورته الحقيقة، فيوحي إلى الرسول، وتارة في صورة إنسان يراه الحاضرون، ويصغون إليه.
وتارة يهبط خفية فلا يرى، إلّا أنّه يظهر على النبي صلى الله عليه وسلم أثر التغير والانفعال، فيغط غطيط النائم، ويغيب غيبة كأنها غشية أو إغماء، وما هي من هذه، ولا تلك.
وإنّما هي استغراق في لقاء الملك الروحاني، فينخلع عن حالته البشرية المعتادة، فيتأثّر الجسم، فيغط، ويثقل ثقلاً غريباً، فينجم عنه تصبب عرق في الجوّ البارد، بل الشديد البرد.
1 – هيئة الوحي بصورته الحقيقية:
وهذه نادرة، فلم تتجاوز المرتين، بل حصرت بهما، مرة بأجياد، وأخرى في سدرة المنتهى، فعن أمِّنا عائشة رضي الله عنها قالت:
[إنّ النّبي صلى الله عليه وسلم كان أول شأنه يرى في المنام، وكان أول ما رأى جبريل بأجياد، صرخ جبريل: يا محمد!، فنظر يميناً وشمالاً، فلم ير شيئاً، فرفع بصره، فإذا هو على أفق السماء، فقال: يا محمّد! جبريل، جبريل، فهرب، فدخل في الناس، فلم ير شيئاً، ثم خرج عنهم، فناداه، فهرب، ثم استعلن له جبريل من قبل حراء، فذكر قصة إقرائه:
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ).العلق/1/، ورأى حينئذ جبريل، له جناحان من ياقوت، يخطفان البصر] (1).
وفي صحيح مسلم عن أمّنا عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: [لم أره- يعني جبريل- على صورته التي خلق عليها إلّا مرتين]، ثم إنّ الإمام أحمد رحمه الله تعالى قد بينّ في حديث ابن مسعود رضي الله عنه:
أنّ الأولى: كانت عند سؤاله إياه أن يريه صورته التي خلق عليها، والثانية: عند المعراج، فعند الترمذي عن أمِّنا عائشة رضي الله عنها:
[لم ير محمد جبريل في صورته إلّا مرتين: مرة عند سدرة المنتهى، ومرّة في أجياد]، ورواية الترمذي تتوافق مع الأولى، وتقوّيها.
2 – هيئة الوحي بصورة إنسان:
وقد اشتهر أنّ جبريل عليه السلام كان يتمثل صورة صحابي، واسمه (دحية الكلبي)، فقد أخرج البخاري عن عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها، أنّ الحارث بن هشام رضي الله عنه، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:[يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشدّه عليّ، فيفصم عني، وقد وعيت عنه ما قال، وأحياناً يتمثّل لي الملك رجلاً، فيكلّمني، فأعي ما يقول].
قالت عائشة رضي الله عنها: [ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإنّ جبينه ليتفصّد عرقاً].
ولم يقتصر تمثّل جبريل عليه السلام بصورة دحية فقط، وإنّما تمثّل بصورة أعرابي أيضاً، كما جاء في حديث سيدنا عمر رضي الله عنه في الرجل الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان ثمّ الساعة. ولما غادر قال عنه صلى الله عليه وسلم: [إنّه جبريل جاءكم ليعلمكم دينكم]، ويمكن أن نحمل قوله صلى الله عليه وسلم [إنّ روح القدس نفث في روعي]، على هيئة لمجيء الملك إليه بالوحي، ويكون نوعاً من أنواع الجليّ.
وقع الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
– إنّ حديث أمِّنا عائشة رضي الله عنها، ليصوّر لنا وقع الوحي على النّبيِّ صلَى الله عليه وسلَم، فقد كان شديداً، وأشدّه كصلصلة الجرس، وقد أوضح القرآن حقيقة ذلك، فقال: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا).المزمل/ 5/.
فالوحي إذاً كلّه شديد، وأشدّه مثل صلصلة الجرس، وذلك لعظمة التنزيل، وفي حديث ابن عباس [كان يعالج من التنزيل شدّة]، وعند البيهقي في الدلائل [وإن كان ليوحى إليه، وهو على ناقته فيضرب حزامها من ثقل ما يوحى إليه].
وحسبه شدّة ما وصفته به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بقولها الآنف الذّكر.
لقاؤنا المقبل بإذن الله تعالى مع أوّل ما نزل من الوحي، والحمد لله ربّ العالمين .
====================================================
(1) فتح الباري (1/ 35). وفي هذه الرواية (ابن لهيعة) وهو ضعيف.