الموضوع العاشر: الحكم والأسرار في تنجيم القرآن الكريم (1):
لتنجيم نزول القرآن الكريم أسرارٌ عدَّةٌ، وحكم كثيرة نستطيع أن نجملها في أربع حكم رئيسة، سنتكلّم عنها تباعاً:
الحكمة الأولى: تثبيت فؤاد النّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وتقوية قلبه، وذلك من وجوه خمسة:
الوجه الأوَّل: أنّ في تجدّد الوحي، وتكرار نزول الملك به من جانب الحقّ إلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم سروراً يملأ قلبَ الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم، وغبطة تشرح صدره وكلاهما يتجدَّد عليه بسبب ما يشعر به من هذه العناية الإلهية، وتعهدِ مولاه إيّاه في كلِّ نوبة من نوبات هذا النُّزول.
الوجه الثاني: أنَّ في التَّنجيم تيسيراً عليه من الله تعالى في حفظه وفهمه، ومعرفة أحكامه وحِكمه، وذلك مُطمئِنٌ له على وعي ما يوحى إليه حفظاً وفهماً وإحكاماً، كما أنَّ فيه تقويةً لنفسه الشَّريفة على ضبط ذلك كلِّه.
الوجه الثالث: أنَّ في كل نوبة من نوبات هذا النُّزول المنجّم معجزة جديدة غالباً، حيث تحدَّاهم كلَّ مرَّة أن يأتوا بمثل نوبة من نوب التّنزيل، فظهر عجزهم عن المعارضة، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، ولا شكّ أنّ المعجزة تشدّ أزره، وترهف عزمه باعتبارها مؤيّدة له ولحزبه، خاذلة لأعدائه ولخصمه.
الوجه الرّابع: أنّ في تأييد حقّه ودحض باطل عدوِّه المرّة بعد الأخرى تكراراً للذَّة فوزه بالحقِّ والصَّواب، وشهوده لضحايا الباطل في كل مهبط للوحي والكتاب. وإنْ كلُّ ذلك إلَّا مشجِّعٌ للنَّفس، مقوٍّ للقلب والفؤاد، والفرق بين هذا الوجه والَّذي قبله: هو الفرق بين الشَّيء وأثره، أو الملزوم ولازمه، فالمعجزة من حيث إنَّها قوَّة للرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم ومؤيَّدة له، مطمئنة له، ومثبّتة لفؤاده، بقطع النّظر عن أثر انتصاره، وهزيمة خصمه بها.
ثم إنّ هذا الأثر العظيم وحده مطمئن لقلبه الكريم، ومثبّت لفؤاده أيضاً, أشبه شيء بالسّلاح، وجوده في يد الإنسان مطمئن له، ولو لم يستعمله في خصمه، ثمّ انتصار الإنسان وهزيمة خصمه به إذا أعمل فيه مُطمئنٌ للفؤاد، مريح للقلب مرَّة أخرى.
الوجه الخامس: تعهد الله إيّاه عند اشتداد الخصام بينه وبين أعدائه بما يهوّن عليه هذه الشّدائد، ولا ريب أنّ تلك الشّدائد كانت تحدث في أوقات متعدّدة فلا جرم كانت التّسلية تحدث هي الأخرى في مرّات متكافئة.
فكلّما أحرجه خصمه سلاه ربه. وتجيء تلك التّسلية تارة عن طريق قصص الأنبياء والمرسلين الّتي لها في القرآن عرض طويل، وفيها يقول الله: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}.من سورة هود. وتارة تجيء التسلية عن طريق وعد الله لرسوله صلّى الله عليه وسلّم بالنّصر والتّأييد والحفظ، كما في قوله سبحانه في سورة الطور: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}، وقوله في سورة المائدة: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ونحو ما في سورتي الضّحى، وألم نشرح من الوعود الكريمة والعطايا العظيمة. وطوراً تأتيه التّسلية عن طريق إبعاد أعدائه وإنذارهم نحو قوله تعالى في سورة القمر: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} وقوله سبحانه في سورة فصلت: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}، وطوراً آخر ترد التّسلية في صورة الأمر الصّريح بالصّبر، نحو قوله جل شأنه في سورة الأحقاف: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}، أو في صورة النّهي عن التّفجع عليهم والحزن منهم، نحو قول الله في سورة فاطر: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} ونحو قوله سبحانه في خواتم سورة النحل: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} .
ومن موارد تسلية الله لرسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يخوِّفه عواقب حزنه من كفر أعدائه نحو: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} في فاتحة سورة الشعراء، ومنها أن يؤيّسه منهم ليستريح ويتسلّى عنهم نحو: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} . {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} من سورة الأنعام.
ويمكن أن تندرج هذه الحكمة بوجوهها الخمسة تحت قول الله في بيان الحكمة من تنجيم القرآن {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} من سورة الفرقان.
وسنتابع في اللقاء القادم الحكم من تنجيم القرآن الكريم، والحمد لله ربّ العالمين.