ذكرنا في الحلقة المقبلة، أنَّ الحُكمَ الشَّرعيَّ ينقسمُ إلى قسمين: أ- الحكمُ الشّرعي التَّكليفيُّ، وقد تكلَّمنا عنه، وعن متعلِّقاته، ب- الحكمُ الشّرعيُّ الوضعيُّ، وهو الَّذي سنتكلَّم عنه الآن.
تعريفه: هو خطاب الله تعالى، المتعلّق بجعل الشَّيء سبباً، أو شرطاً، أو مانعاً، أو صحيحاً، أو فاسداً(1) ، والمهمّ أن نفهمَ هذه الأقسام، ونتصوَّرَها تصوَّراً سليماً، مع ذكر بعض الأمثلة الّتي توضّحها وتبيُّنها.
– وقد رأينا أنّ أقسام هذا الحكم خمسة وهي:1. السَّبب. 2. الشّرط. 3. المانع. 4. الصّحيح. 5. الفاسد، وسيكون الكلام عن كلّ واحد من هذه الأقسام على حدة، وعلى سبيل الإجمال الّذي يتّضح به المقال، علماً أنَّه سمّي هذا الحكم بالوضعيّ، لأنَّ الله تعالى وضعه علامة على الأحكام التكليفية المتعلّقة بفعل المكلف، وذلك كجعله زوال الشّمس عن كبد السّماء علامة على وجوب الظّهر على المكلّف، وكجعله وجود النّجاسة في الثّوب علامةً على بطلان الصّلاة، فوجوب الظّهر بالزوال، وفساد الصّلاة بالنّجاسة حكمان شرعيّان، والزّوال والنّجاسة علامتان عليهما.
1. السّبب: السّبب في اللُّغة : هو ما يكون موصلاً إلى الشَّيء، كالطّريق والحبل وغيرهما.
السبب في الاصطلاح: هو الوصف، الظاهر، المنضبط، المعّرفُ للحكم، أو ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم.
شرح التَّعريف:
1. الظَّاهر: أي؛ البيّن الواضح، الَّذي لا إخفاء فيه ولا لَبس.
2. المنضبط: أي المطّرد، الّذي لا يختلف باختلاف الأحوال، والأشخاص، والأزمان.
3. المعّرف للحكم: أي؛ الدّال على الحكم، دون تأثير فيه، عند أهل الحقِّ، وإنّما هو مجرَّد أمارة لا غير، فحيثما وجد السّبب، وجد المسبّب، وحيثما انعدم انعدم، فالسَّبب هو العلامة الَّتي نَعرِف من خلالها وجودّ حكمِ الله تعالى فيما ظهرت فيه، دون أن يكون له تأثير في الحكم، وإنما هو مُعَرّف فقط . كزوال الشمس عن كبد السماء، يدلُّنا على دخول وقت الظهر، دون أن يكون له فيه تأثير، وهل السبب نفس العلّة؟ أو هو شئ يغايرها ويباينها؟ أو له بها علاقة عموم وخصوص مطلق؟ خلافات بين المتكلّمين في تعريف السّبب والعلّة، ولا داعي لإثارتها، ويكفي المبتدئ في أصول الفقه، أن يعرف ما ذكرناه عن السّبب، وأن الجمهور يطلقونه على العلّة. وهي ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم، ولنا إلى هذا الموضوع عودة عند الكلام على العلّة في أبحاث القياس إن شاء الله تعالى.
هل يكون السّبب مناسباً للحكم، أو لا؟
السَّبب قد يكون مناسباً للحكم، وقد لا يكون مناسباً له، فالسَّبب المناسب للحكم: هو الّذي توجد بينه وبين الحكم مناسبة واضحة جليَّة، تنبسط معها النّفس، لظهور الحكمة من تشريع الحكم من خلالها، وذلك كجعل القتل العمد العدوان سبباً للقصاص، لأنَّ القتل فيه اعتداء على الأنفس، وبثٌّ للخوف والرّعب والقلق بين النّاس، وزعزعة للنّظام والاستقرار، ولذلك ناسبه القصاص العادل الّذي تستقرُّ معه الحياة، ويطمئن الإنسان، وذلك ظاهر في قوله تعالى: ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون)، وكجعل السّفر سبباً للإفطار في رمضان في قوله تعالى: (فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدّة من أيام أخر )، لأنَّ السّفر مشقّة، مهما كانت وسائله مريحة، وهذه المشقّة يناسبها التّخفيف، وذلك ظاهر في قوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر، ولا يريد بكم العسر )، ومثل الفطر في رمضان: القصر للصّلاة الرباعيّة في السّفر، والجمع بين الصّلاتين، وزيادة مدّة المسح على الخفّ من يوم وليلة إلى ثلاثة أيام بلياليها، وغير ذلك.
والسّبب الّذي لا يناسب الحكم: هو الّذي لا توجد بينه وبين الحكم مناسبة تدعو إليه، وتحثّ عليه، وإنما هو مجرّد علامة على الحكم لا غير، دون أيّة مناسبة بينه وبينه، وذلك كجعل الدّلوك: وهو ميل الشّمس وزوالها عن كبد السّماء، علامة على دخول وقت الظّهر، فإنَّه لا توجد أيَّة مناسبة بين زوال الشّمس عن وسط السّماء، وبين دخول وقت الظّهر، وإنّما هو علامة محضة، تدلّنا على دخول الوقت بالزّوال.
كما ينقسم السَّبب باعتباره فعلاً للمكلّف، أو ليس فعلاً له إلى قسمين:
1. سبب ليس فعلاً للمكلّف: بل ليس للمكلّف أيّ أثر فيه، وذلك كجعل الزّوال سبباً لدخول وقت الظّهر، والغروب سبباً لإباحة الفطر.
2. سبب للمكلف أثر في إيجاده : وذلك كالزنا الذي هو سبب لإقامة الحد، إلّا أنّ المكلّف هو الّذي يفعله، وكالسّفر الّذي هو سبب للإفطار في نهار رمضان، فإنّ الإنسان هو الّذي ينشئه.
وهناك تقسيمات أخرى للسّبب باعتبارات أخرى لا يحتاج إليها المبتدئ، والحمد لله ربّ العالمين.
انتهى: بتصرف يسير، عن كتاب الوجيز في أصول التشريع الإسلامي، للشيخ الدكتور: محمد حسن هيتو.
=================================================================(1) نهاية السُّول:1/54، المحصول:1/138، جمع الجوامع: 1/84، الأحكام: 1/181، رفع الحاجب عن ابن الحاجب : 1 /117.