للرّد على هذه الشّبهة، فقد قام أهل العلم بالتّوفيق بين أحاديث النّهي عن الكتابة، وبين الآثار الّتي تدلّ على الإذن بها، فالأكثرون على أنّ النّهي منسوخ بالإذن، ومن قائل بأنّ النّهي خاصٌّ بمن لا يُؤمَنُ عليه الغلط والخلط بين القرآن وَالسُنَّةِ، أمّا الإذن فهو خاصّ بمن أُمِنَ عليه ذلك، وأعتقد أنّه ليس هنالك تعارض حقيقيّ بين أحاديث النّهي وأحاديث الإذن، إذا فهمنا النّهي على أنّه نهي عن التّدوين الرّسميّ، كما كان يُدَوَّنُ القرآن، وأما الإذن فهو سماح بتدوين نصوص مِنَ السُنَّةِ لظروف وملابسات خاصّة، أو سماح لبعض الصّحابة الّذين كانوا يكتبون السُنَّةَ لأنفسهم (1) والتّأمل في نصّ حديث النّهي قد يؤيّد هذا الفهم، إذ جاء عَامّاً مخاطباً فيه الصَّحابة جميعاً، فلا يقال: إنّ ذلك يقتضي أن يكون الحكم باقياً على الحرمة ما دام السّماح لظروف خاصّة، ولأشخاص معيَّنين، لأنّنا نقول: إنَّ سماح الرَّسول صلّى الله عليه وسلَّم لسيّدنا عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، بكتابة صحيفته، واستمراره في الكتابة حتى وفاة الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم، دليلٌ على أنَّ الكتابة مسموحٌ بها في نظر الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم، إذا لم يكن تدويناً عَامّاً كالقرآن، ويؤكّد الإذنَ بالكتابة، ما جاء في صحيح البخاري، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّهُ لَمَّا اشْتَدَّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعُهُ قَالَ: «ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَاباً لاَ تَضِلُّوا بَعْدَهُ»، وَلَكِنَّ سيّدنا عُمَرَ رضي الله عنه، وكان معه عدد من الصحابة، امتنعوا عن ذلك، وسبب امتناعه هو ومن معه، أنّهم أشفقوا على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وكرهوا أن يكلّفوه من ذلك ما يشقّ عليه في تلك الحالة، مع استحضارهم قوله تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام:38]، وقوله تعالى: (تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل: 89]. وهذا مِمَّا يؤيد الرأيَ القائلَ: بأنَّ آخرَ الأمرين كان هو الإذن.
==========================================
(1) ويؤكده ما أخرجه الخطيب في ” تقييد العلم “: ص 47 عن الضحاك من قوله: «لاَ تَتَّخِذُوا لِلْحَدِيثِ كَرَارِيسَ كَكَرَارِيسِ المَصَاحِفِ».