الإنفاق بما يطاق، عند البرد والإملاق(1)
سيّدنا عثمان بن عفّان رضي الله عنه نموذجاً
الخيريّة والنّفع والتّعاون والإغاثة والصّدقة والبرّ وما في ركابها من معانٍ إنسانيَّة عميقةٍ، هي أخلاقٌ غرسها الإسلام، وحرص على تنميتها وتوجيهها، كيف لا؟! وعنوانُ البعثةِ النَّبويَّةِ إتمامُ مكارمِ الأخلاق.
– هذا الحرص على الأخلاق والخيريّة يُعتبر من صلب مقاصد القرآن الكريم، وقد ترجمت السّنَّة النَّبويَّة هذا الحرصَ من خلال النَّموذج النَّبويّ الكامل خُلقاً وخيريَّة صلّى الله عليه وسلّم؛ ولقد بلغ من حرص الإسلام على الخيريّة؛ أن جعلها من صميم التَّعليل الفقهيِّ الإسلاميِّ، فكانت أساساً لإنتاج أحكام فقهيّة، ما يجعلُ الشّريعةَ الإسلاميّةَ منظومةً فقهيَّةً أخلاقيّةً بامتياز.
– وهذا الحثُّ والحضُّ على الخيريّة يكون أكثر، ومن باب أولى؛ عند الحالات النّازلة فجأة، كالعواصف الثّلجيّة، والبرد الشّديد الّذي يضرب بعض بلاد المسلمين في هذه الأيّام، حتّى كساها الجليد، واشتدّ فيها الصّقيع، هذه النّوازل هي ابتلاء من الله تعالى لفقراء المسلمين؛ إذ يعالجون الجوع والبرد مع قلّة ذات اليد، وهي ابتلاء لأغنياء وأثرياء المسلمين، أيسدّون حاجة إخوانهم الفقراء، فيطعمونهم من جوع، ويدفئونهم من برد، ويكسونهم من عراء؟! فقد كَانَ أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ إِذَا أَمْسَى يَقُولُ: (هَذِهِ لَيْلَةُ الرُّكُوعِ فَيَرْكَعُ حَتَّى يُصْبِحَ، وَكَانَ يَقُولُ إِذَا أَمْسَى: هَذِهِ لَيْلَةُ السُّجُودِ فَيَسْجُدُ حَتَّى يُصْبِحَ، وَكَانَ إِذَا أَمْسَى تَصَدَّقَ بِمَا فِي بَيْتِهِ مِنَ الْفَضْلِ مِنَ الطَّعَامِ وَالثِّيَابِ ثُمَّ يَقُولُ: اللهُمَّ مَنْ مَاتَ جُوعًا فَلَا تُؤَاخِذْنِي بِهِ وَمَنْ مَاتَ عُرْيَانًا فَلَا تُؤَاخِذْنِي بِهِ). (1).
ومن نماذج التّأسيس النّبويّ لقيم الخيريّة والتّراحم والصّدقة والبرّ، حديثٌ نبويٌّ كريم، يرويه لنا سيّدنا أبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، فيقول: «بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ، قَالَ: فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِيناً وَشِمَالاً، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ»، قَالَ: فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ))(2)، فجعل صلّى الله عليه وسلّم الصّدقة والبرّ أمراً واجباً، بكلِّ ما يُستطاع من مالٍ أو جهدٍ أو خبرةٍ أو غيرها، كما حثَّ صلّى الله عليه وسلّم على المواساة والإحسان إلى الرّفقة والأصحاب، والاعتناء بمصالحهم، والسّعي في قضاء حاجة المحتاج، وإن كان له راحلة، وعليه ثياب، أو كان موسراً في وطنه، فيُعطى من الزَّكاة في هذا الحال، ولقد أخذ الصَّحابة رضوان الله عليهم بحظٍّ وافرٍ من هذه المكارم، تعلُّماً من المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم، الَّذي كان على خلق عظيم، وصفاً ربَّانيَّاً في كتاب الله الكريم، فكانوا منارات هدى في الباب، ولعلَّ من المنارات المضيئة، والنَّماذج الخيرية الكريمة، ثالثَ الخلفاء الراشدين، وصاحبَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عثمانَ بنَ عفَّان رضي الله عنه وأرضاه، فما هي مظاهر هذه الخيريَّة؟
1ـ وقف بئر رومة: يُعتبر الوقف الإسلاميُّ نموذجاً شاهداً على خيريَّة الصَّحابة والمسلمين عموماً، ووقف بئر رومة المشهور في تاريخ الإسلام، شاهدٌ على خيريَّة عثمان بن عفَّان رضي الله عنه على الخصوص، فعن ثمامة بن حزن القشيريّ، أنَّ عثمان بن عفَّان رضي الله عنه قال: قدِم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم المدينةَ، وليس بها ماءٌ يُستعذَب، غيرُ بئرِ رومة، فقال: من يشتري بئرَ رومة فيجعلَ دلوَهُ مع دِلاء المسلمين، بخيرٍ له منها في الجنَّة؟ فاشتَريتُها من صُلْبِ مالي (((3)، وفي رواية أخرى عند البخاري عن عثمان رضي الله عنه أنّه قال: قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: من يحفر بئر رومة فله الجنّة، فحفَرتُها (((4).
إنَّ هذا الحدث؛ يبيِّن أهمِّية المسارعة لسدِّ حاجة المسلمين، خاصّة ما كان من الحاجات محتكراً غير متاح، هذه المسارعة عنوان خيريّة أقرّها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بل حضَّ عليها، ووعد عليها الجنّة؛ كما أن لهذا الحديث قراءة أخرى مهمّة في عصرنا مرتبطة بسلوك المتبرّعين، فها هو الخليفة الثّالث، صاحبُ رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم، يُخبر بنفسه في الحديثين السّابقين عمَّا فعله، وهذا لا شكّ من الحضِّ على الخير، والدّعوة إليه، والمساهمة في التّنافس على الخير بإعلانه وإشهاره.
وسنرى في الحلقات المقبلة عِظَمَ هذا الإنفاق، وكيف تجلَّى فيه النَّفع من جانب، وكيف كان هذا النّفع في الوقت المناسب، في المحلّ المناسب.
=============================================
(1) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم الأصبهاني، 2/87.
(2) صحيح مسلم، 3/1354.
(3) أخرجه الترمذي في السنن، وقال حديث حسن، أبواب المناقب، رقم 627/53703.
(4) أخرجه البخاري في صحيحه معلقا كتاب المناقب باب مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه 5/ 13.