– لم يكن نزولُ القرآنِ الكريمِ بنمطٍ واحدٍ، وإنّما كان له أنماطٌ ثلاثة:
التَّنزُّل الأوَّل: تنزّلٌ إلى اللّوح المحفوظ، وهذا التَّنزُّل له، لم يطّلع على حقيقته أحد، فهو غيب من غيوبه سبحانه، إلّا من أطلعه عليه، وتميّز هذا التّنزّل بأنَّه: نزل جملة واحدة، ولم يتنزَّل مفرّقّاً، ودليلُه قوله تعالى: ( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ(21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ(22).(1)
حكمة هذا النُّزول: ليس في أفعال الله تعالى ما يوحي بالعبث، وإنّما فعله سبحانه وفق الحكمة، وما يُصلحُ شأنَ الخلق، فاللَّوح المحفوظ؛ هو السّجلّ الجامع لكلّ ما قضى الله تعالى وقدّر، وما هو كائن، وما كان، وما سيكون.
فالإيمان به يبعث الطّمأنينة في النّفس، والثّقة بكلّ ما يصدر عن الربّ سبحانه، كما يحمل النّاسَ على الرّضا والسّكون، تحت سلطان القدر والقضاء، ومن ثمّ تهون المصيبة، ويقوى صاحبها، ويزداد ثباتاً، فيتفانى في الطّاعة، مع الرّضا لأوامر ربّه، قال الله تعالى: (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ(23). (2)، وإذا صدّق الإنسان بهذه العقيدة، فإنّه سيستقيم على الجادّة، ويؤثّر في مجالات الحياة، ما من شأنه إسعادُ البشر.
التَّنزّل الثّاني: تنزّلٌ إلى بيت العزّة: ثمَّ التّنزّل الثّاني إلى بيت العزّة في السّماء الدّنيا، وفي ليلة واحدة، ووصفت بالليلة المباركة، قال الله تعالى:
(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ). (3)، كما وصفت بليلة القدر، قال الله تعالى:
(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ).(4)، وهي من ليالي شهر رمضان، قال الله تعالى: ( شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ).(5)، وجاءت السّنّة لتؤكّد على ما ألمحت إليه الآيات السّالفة، في تحديد معنى التنزّل الثّاني، وهي سنّة صحيحة.
1- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «فُصِلَ الْقُرْآنُ مِنَ الذِّكْرِ، فَوُضِعَ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَجَعَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُنْزِلُهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُرَتِّلُهُ تَرْتِيلًا».(6)
2 – عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: (أُنْزِلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَكَانَ بِمَوْقِعِ النُّجُومِ، وَكَانَ اللَّهُ يُنَزِّلُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَهُ فِي أَثَرِ بَعْضٍ، قَالَ: وَقَالُوا: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}).(7)(8)
وفي هذا يقول السّيوطيّ عن هذه النّصوص: «وهي أحاديث موقوفة على ابن عباس، غير أنّ لها حكم المرفوع إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما هو مقرّر، من أنّ قول الصّحابي ما لا مجال للرّأي فيه، ولم يعرف بالأخذ عن الإسرائيليّات، حكمه حكم المرفوع» (9).
التنزّل الثالث: تنزّل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم منجّماً.
وهو التنزّل الأخير، وكان من بيت العزّة إلى قلب النّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم بواسطة جبريل عليه السّلام، فشعّ النّور على العالم، واهتدى به من اهتدى، وضلّ من ضلّ، ودليله: قوله تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ(195). (10)، ويبقى السّؤال: كيف أخذ سيّدنا جبريل عليه السّلام القرآن إذاً؟ هذا ما سيكون في لقائنا المقبل، فحتّى ذلكم الحين أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
===========================================
(1) البروج/ 22/.
(2) الحديد/ 22، 23/.
(3) الدخان/ 3/.
(4) القدر/ 1/.
(5) البقرة/ 185/.
(6) المستدرك على الصحيحين للحاكم: 2/242، وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وصحَّحه الذَّهبيّ.
(7) [الفرقان: 32].
(8) المستدرك على الصحيحين للحاكم: 2/242، وقال: «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ». قال الذهبي: هو على شرط البخاريّ ومسلم.
(9) الإتقان للسيوطي: (1/ 38).
(10) الدخان/ 3/.