المَوضُوعُ الثّالثُ في موعظة الجمعة
أمَّة صنعَها الإسلام، والإسلامُ أمانٌ لكلِّ النَّاسِ، كذلكم كان الفاروقُ مع دينِ الإسلام:
إذَا الإيِمَانُ ضَاعَ فَلَاَ أَماَنُ وَلَاَ دُنْيَا لِمَنْ لَمْ يُحيِ دِيْنَا
وَمَنْ رَضِيَ الحَيَاةَ بِغَيْرِ دِيْنٍ فَقَد جَعَلَ الفَنَاءَ لَهَا قَرِيْنَا
– جاء في الآثار لأبي يوسف رحمه الله تعالى(1)، أنه قال:
(( إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مَرَّ بِرَجُلٍ وَهُوَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ، وَعُمَرُ يَقُومُ عَلَى النَّاسِ وَهُمْ يَأْكُلُونَ، فَقَالَ لَهُ: «كُلْ بِيَمِينِكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ» ، قَالَ: إِنَّهَا مَشْغُولَةٌ، ثُمَّ مَرَّ بِهِ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَرَّ بِهِ الثَّالِثَةَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: شُغْلُ مَاذَا؟ قَالَ: قُطِعَتْ يَوْمَ مُؤْتَةَ، قَالَ: فَفَزِعَ عُمَرُ لِذَلِكَ فَقَالَ:
«مَنْ يَغْسِلُ ثِيَابَكَ؟ مَنْ يَدْهِنُ رَأْسَكَ؟ مَنْ يَقُومُ عَلَيْكَ؟»، قَالَ: فَعَدَّدَ عَلَيْهِ بِمِثْلِ هَذَا، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِجَارِيَةٍ وَرَاحِلَةٍ طَعَامٍ وَنَفَقَةٍ، قَالَ: فَقَالَ النَّاسُ: جَزَى اللَّهُ عُمَرَ عَنْ رَعِيَّتِهِ خَيْراً)).
هكذا كوفئ من كان في التّضحية والفداء سبّاقاً، وهكذا شعر بالأمان في ظلال الإسلام.
وأمّا أمانُ غيرِ المسلمين في الإسلام، فيتجلَّى بما رواه الإمام السيوطي في جامع الأحاديث، وابن القيم في أحكام أهل الذمة أنَّه قال: « بَلَغَنِي أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مَرَّ بِشَيْخٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، يَسْأَلُ عَلَى أَبْوَابِ النَّاسِ فَقَالَ: مَا أَنْصَفْنَاكَ أَنْ كُنَّا أَخَذْنَا مِنْكَ الْجِزْيَةَ فِي شَبِيبَتِكَ، ثُمَّ ضَيَّعْنَاكَ فِي كِبَرِكَ، قَالَ: ثُمَّ أَجْرَى عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَا يُصْلِحُهُ»(2). ويعود الفاروق إلى داره، ويصدِّر ذلك قانوناً، ليعتمده الجهاز التّنفيذيُّ للدّولة، ليُنظَّم به المجتمع، وهكذا تَشكَّل قانون الكفالة الاجتماعية لمن يعيش على أرض الدّولة المسلمة.
وأمَّا أمان النساء والأطفال في ظلال الإسلام، فيتجلّى عند الفاروق في نموذج آخر، حيث يُواصل التَّجوالُ اللّيلي مُتفقِّداً أحوال النّاس، وإذ بطفلٍ يصرخ ويصدر أنيناً حزيناً، فيقترب من البيت، ويسأل من وراء الجدار عَمّا به، فترد أم الطفلة: (إنّي أفطمه يا أمير المؤمنين)، وهذا حدث طبيعيّ، أُم تفطم طفلها ولذا يصرخ، ولكن الفاروق لا يمضي إلى حال سبيله، بل يستمر في الحوار مع أُمِّ الطفل، ثم يكتشف بأنّ الأم فطمت طفلها قبل موعد الفطام، لحاجتها لمائة درهم كان يصرفها بيت مال المسلمين لكل طفل بعد الفطام!، ويرجع الفاروق إلى منزله، لا لينام، إذ أنين ذاك الطفل لم يبرح عقله وقلبه، فيصدر قراراً بصرف المائة درهم للطفل منذ الولادة، وليس بعد الفطام، ويصبح القرار قانوناً يحفظ حقوق الأطفال، ويحميهم من المخاطر الناتجة عن الفطام المُبكِّر، لو لم يكن الفاروق في ذاك المكان في تلك الليلة، لما صدر هذا القانون الذي يحمي حق الطفل في الرضاعة الكاملة، وكان هذا قانوناً للطفل، وذاك قانوناً لحق المرأة.!
– إنَّ الأمان في الإسلام شمل كلَّ حقٍّ يمكن أن تتوقّعه، وهذا ما يظهر مع الفاروق عمر رضي الله عنه، إذ إنّه كان يحبُّ أخاه زيداً، وكان زيدٌ رضي الله عنه، قد استشهد في حروب الردة، وذات نهار بسوق المدينة، يلتقي سيدنا عمر رضي الله عنه، بالأعرابي قاتل زيد، وكان قاتله قد أسلم، فقال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لقاتل أخيه: ((والله لا أحبك حتى تحبَّ الأرضُ الدمَ))! فيسأله الإعرابي مُتوجِّساً: ((أفتظلمني حقي يا أمير المؤمنين))؟ قال عمر: لا! فقال الأعرابي: “إنما يأسى على الحب النساء” لم يغضب أمير المؤمنين، ولم يزجَّ به في بيوت الأشباح، ولم يتّهمه بالعَمَالة والخيانة.! ولكن، كما كظم حُزنه على موت أخيه زيد، كظم غضبه على جرأة الأعرابي؛ ولم يفعل ذلك إلا إيماناً بحق هذا الأعرابي في حرية التعبير، بكظم أمير المؤمنين الغضب – وهو في قُمّة السُّلطة – وضع الفاروق قانوناً يبيح للآخرين (حُرية التعبير). ولذلك؛ مارس الأعرابيُّ وكلُّ رعية الفاروق حرياتهم بلا توجُّس من ضياع حقوقهم.
– إنّ الكون كلّه بحاجة إلى أمان الإيمان، وعدالة الإسلام، وبحاجة إلى من يتذوق هذا الأمان، ويمارسه مع الآخرين في كل شؤون الحياة.
نعم، لم يتغير الناس ولا الحياة، ولكن ليس في القوم عمر رضي الله عنه، ليطبّق هذا الأمان.
………………………..جمعة مباركة……………………
=======================================
(1) الآثار، لأبي يوسف. ص: 208 – رقم: 927.
(2) جامع الأحاديث للسيوطي: 1/144.