– الإعجاز مشتقٌّ من العجز، والمراد به: الضعف والقصور[1]، والمراد بالبيان: الإفصاح عن المعنى المقصود من غير توسُّع في الكلام بعبارة واضحة، فالإعجاز البياني معناه: الدّقة في اختيار الكلمات، وترتيبها بصور بديعة؛ حيث تظهر فيها الفصاحة والبلاغة والبيان بصورة يفهمها القارئ[2].
– ومن مظاهر عظمة النبي صلى الله عليه وسلم ودلائل نبوته: أنه صاحب الحكمة البالغة، والكلمة الصادقة، واللسان المبين، وقد فضَّله الله عَزَّ وجَلَّ على غيره من الأنبياء عليهم السلام بأن أعطاه جوامع الكلم، فكان صلى الله عليه وسلم يتكلَّم بالكلام الموجز، القليل اللفظ، الكثير المعاني، المشتمل على أعلى صور البلاغة والفصاحة، وبدائع الحكم، ومحاسن العبارات.
وقد اتَّصف النبي صلى الله عليه وسلم بصفاتٍ لم تجتمع لأحدٍ قبله ولا بعده، فقد كان أفصح الناس قولًا، وأعذبهم كلامًا، وأحلاهم منطقًا، وأبدعهم لغةً، حتى إن كلامه ليأخذ بمجامع القلوب، ويأسر الأرواح، مع قلة حروفه بحيث يعده العاد، ليس بسريعٍ لا يُحفظ، ولا بكلامٍ منقطع لا يُدركُه السامع، بل هديه فيه أكمل الهدي، شهِد له بذلك كل من سمعه، من الموافقين له، والمخالفين له.
والأقوال النبوية الصحيحة تمثل ذِرْوة البيان البشري، والبلاغة الإنسانية مبنى ومعنى، مضمونًا وشكلًا، فكرةً وأسلوبًا، فقد حوت من جوامع العلم، وجواهر الحِكَم، وحقائق المعرفة، وروائع التشريع، وبدائع التوجيه، وغرائب الأمثال، ونوادر التشبيه ما لم يَحوه كلام بليغٍ ولا حكيم، مع سهولةٍ فائقة، وعذوبةٍ رائعة، وحيويةٍ بالغة، جعلت في الكلمات روحًا يسري كما تسري العصارة في الأغصان الحية، وهي أجدر أن توصف بأنها: تنزيلٌ من التنزيل، وقبسٌ من نور الذكر الحكيم، وهذا ما نوَّه به كبار الأدباء والبلغاء في مختلف العصور.
وقد خصَّ الله عزَّ وجلَّ نبيه محمدًا بجوامع الكلم، فربما جمع أشتات الحِكَم والعلوم في كلمةٍ واحدة، أو شطر كلمة، وهذا من معجزات النبوة، ومن دلائل صدق النبي صلى الله عليه وسلم، فقد خصَّه الله بجوامع الكلم، وخصَّه ببدائع الحكم، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في الحديث الذي رواه أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الكَلِمِ)[3]، قال الزهري: بَلَغَنِي أَنَّ جَوَامِعَ الْكَلِمِ أَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ لَهُ الْأُمُورَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُكْتَبُ فِي الْكُتُبِ قَبْلَهُ فِي الْأَمْرِ الْوَاحِدِ وَالْأَمْرَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ[4]، وَقَالَ غَيره: المُرَاد: الموجز من القَوْل مَعَ كَثْرَة الْمعَانِي[5].
وقال الخطابي: معناه: إيجاز الكلام في إشباعٍ للمعاني، يقول الكلمة القليلة الحروف، فتنتظم الكثير المعنى، وتتضمن أنواعًا من الأحكام[6].
وقد أخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا كَالْمُوَدِّعِ، فَقَالَ: (أَنَا مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ) – قَالَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ – (وَلَا نَبِيَّ بَعْدِي، أُوتِيتُ فَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ وَجَوَامِعَهُ… الحديث)[7]، وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُعْطِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ بِخَوَاتِمِه، فَقَالَ: (أَنْهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ أَسْكَرَ عَنِ الصَّلَاةِ)[8].
قال العز بن عبدالسلام: ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم: أنه بُعِث بجوامع الكلم، واخْتُصِر له الحديث اختصارًا، وفاق العرب في فصاحته وبلاغته[9].
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفصح الناس لسانًا، وأبلغ الناس لفظًا، وأوضحهم بيانًا، وأجودهم إلقاءً، وأحسنهم طريقة، وأذكاهم جنانًا، أوتي جوامع الكلم، وقوة البيان، ودقة الأسلوب، وجمال العبارة، وجزالة الألفاظ، وسمو المعاني، التي يندُرُ مثلها في البشر.
وكانت فصاحته صلى الله عليه وسلم في ذِرْوَة الكمال البشري: بُعْدٌ عن التكلُّف في القول، وجزالةٌ في اللفظ، ووضوحٌ في الدلالة، ودِقَّةٌ في الوصف والتعبير، وإبداعٌ في التشبيه والتصوير، وإيجازٌ في القول، ومطابقةٌ لمقتضى الحال، مع العلم بطبائع النفوس وما هي محتاجة إليه، وسنرى في اللّقاء المقبل أنواع جوامع الكلم، وأمثلة من الإعجاز البياني، والحمد لله ربّ العالمين.
=============================================
[1] راجع: لسان العرب لابن منظور 5/ 369.
[2] من مقالة على الإنترنت بعنوان: أمثلة على الإعجاز البياني في القرآن الكريم.
[3] متفقٌ عليه أخرجه: البخاري في صحيحه كتاب الجهاد والسير باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ) 4/ 54 رقم: 2977، ومسلم في صحيحه كتاب المساجد ومواضع الصلاة 2/ 371 رقم: 523.
[4] دلائل النبوة للبيهقي 5/ 471.
[5] فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني 1/ 99.
[6] أعلام الحديث 2/ 1422.
[7] مسند أحمد 11/ 179 رقم: 6606، وإسناده حسن، وضعَّفه الألباني في إرواء الغليل.
[8] صحيح مسلم 3/ 1586 رقم: 2001.
[9] مُنْيَةُ السُّولِ في تفضيلِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم؛ لأبي محمد عز الدين عبدالعزيز بن عبدالسلام، ص 35.